السياق واستقراء النص
النقد علم متكامل يعتمد الدراية بالأساليب والتراكيب والإلمام بعلوم المعاني والبديع والقدرة على الإحاطة بمراد النص ظاهره وباطنه وربط ذلك كله في سياق الحالة النفسية والشعورية والفكرية، وهو بهذا حالة تفاعلية بين المبدع والمتلقي تستشرف العلاقة بين المفردة والمعنى الذي تفرضه زاوية الرؤية وفق سياق النص ومتطلبات الوعي الراشد والإلمام المحايد. والتناول النقدي هو عملية استقرائية للنص تعتمد تلك القواعد ولا يعتمد أسلوب الجرح والتعديل خارج السياق أو إعطاء التأويل الذاتي دون اعتماد على منظومة الحرية المسؤولة أمام الحرية المطلقة. وللأسف فإن الطريقة السائدة في التعاطي مع النصوص الأدبية غالبا ما تسيء إلى حمولتها الفكرية والجمالية لأنها تخضعها لأحكام مسبقة ومنطلقات فكرية أو منهجية أو إيديولوجية يعتقد كل ناقد أن تلك التي يؤمن بها هي الأصلح، لهذا أصبح من الضروري التفكير في نموذج علمي لتحليل الخطاب النقدي يخلق نوعا من التوازن الضروري بين التقيد بالمنهجية العلمية ويضمن حرية الناقد في اختياراته.
ولعل من أهم مرتكزات الخطاب النقدي القدرة على محاسبة النص وفق سياقه وليس وفق رغبات الناقد وميوله، ويقوم السياق في أحيان كثيرة بتحديد الدلالة المقصودة من الكلمة في جملتها ومن قديم أشار العلماء إلى أهمية السياق أو المقام وتطلّبِه مقالا مخصوصا يتلاءم معه، وقالوا عبارتهم الموجزة الدالة ” لكل مقامٍ مقال “. وإن الكلمة لا معنى لها خارج السياق الذي ترد فيه، وربما اتحد المدلول واختلف المعنى طبقا للسياق الذي قيلت فيه العبارة أو طبقا لأحوال المتكلمين والزمان والمكان الذي قيلت فيه فالتحديد الدقيق لدلالة هذه الألفاظ إنما يرجع إلى السياق. ولقد أشار سيبويه إلى ظاهرة المختلف والمترادف والمشترك اللفظي، مما لا يدع مجالاً للشك بين اللغويين العرب حول وجود هذه الظواهر في اللغة العربية، وتدل هذه الإشارة على مدى الاهتمام بموضوعات علم الدلالة التي دارت حولها البحوث والمناقشات.
ويستفاد من ذلك أيضا أنه إذا تعدد معنى الكلمة، تعددت بالتالي احتمالات القصد منها. وتعدد احتمالات القصد يقود إلى تعدد المعنى. ويقوم السياق ووضع الكلمة في موقعها داخل التركيب اللغوي بتحديد دلالة الكلمة تحديدا دقيقا مهما تعددت معانيها ويصرف ما يُدّعَى من التباس أو إبـهام أو غموض في الدلالة بسبب هذه الظواهر.
وحول تحديد السياق لدلالة هذه الظواهر، يقول (فندريس): “الذي يعيِّن قيمة الكلمة في كل الحالات التي ناقشناها إنما هو السياق، إذ أن الكلمة توجد في كل مرة تستعمل فيها في جوٍّ يحدد معناها تحديدا مؤقتا. والسياق هو الذي يفرض قيمة واحدة بعينها على الكلمة بالرغم من المعاني المتنوعة التي بوسعها أن تدلّ عليها”. كما تتركز أهمية سياق الحال أو المقام في الدرس الدلالي في فوائد منها: الوقوف على المعنى، وتحديد دلالة الكلمات، وإفادة التخصيص، ودفع توهم الحصر، وردّ المفهوم الخاطئ وغيرها.
وهناك العديد من المدارس اللغوية العربية والغربية التي تتناول هذا الجانب بالبحث وترسم معالم واضحة لرؤية شاملة وعادلة للنص الإبداعي. بل إن هناك رؤى متخصصة للسياق بين البلاغيين والنحويين والأصوليين كل يفسر العلم وفق السياق الذي ترد فيه المفردة، فعبد القاهر الجرجاني يربط فصاحة الكلمة بسياقها اللغوي والتركيب الذي قيلت فيه، حيث يقول: “وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنّا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلَّقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة (اشتعل) من قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا): إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة، لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولاً بها الرأس معرفا بالألف واللام ومقرونا إليها الشيبُ منكرّاً منصوبا “. وأبو حامد الغزالي يشير إلى أهمية القرائن اللغوية والقرائن الحالية والرموز والإشارات والحركات الجسمية للمتكلم في إفادة الاستغراق والعموم، فيقول: ” إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال السلام عليكم، أنه يريد التحية أو الاستهزاء واللهو”. أما النحاة فاعتمدوا على السياق الجزئي والكلي المتمثل في الشواهد الشعرية والنثرية المعزولة عن نصوصها، وضربوا صفحا عن النصوص الكاملة الموثوق بها نحو القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وهو منهج لا غبار عليه، إذ كان هدفهم الوصول إلى الصحة النحوية إلا أنه في بعض الأحيان يصبح الاعتماد على السياق الجزئي أمراً غير موفق؛ لأنه يؤدى إلى فهم غير صحيح.
وعليه فإن ثنائية الملقي والمتلقي تتجلى في البحث في تركيب وتفكيك النص الإبداعي التي يضمنها فعل القراءة باعتباره شرطا ضروريا وفعالا لتحقق النص باعتباره نصا إبداعيا في حد ذاته. هذا ما يستلزم إيلاء أهمية خاصة لمسألة التأويل في ميدان النقد من خلال نموذج يعنى بإشكالية التلقي الأدبي خصوصا في جانبه النقدي. يقول الناقد صلاح بوسريف: “التأويل هو أحد مستويات التحليل الأساسية التي يطالب فيها الخطاب النقدي بحرية لا حدود لها. فعندما يقرأ الناقد نصا إبداعياـ فإنه ينطلق من مشروعية إمكانية إعطائه التأويل أو التفسير الذي يراه أنسب صدقا وأكثر انسجاما. ونعتقد أنه أصبح من المنطقي إعادة النظر في هذه “الحرية المطلقة” التي يتمتع الناقد نفسه بها وبالتالي إخضاع الخطاب النقدي نفسه لمجموعة من المعايير تضمن له نوعا من النزاهة الفكرية والمصداقية العلمية في تعاطيه مع النصوص.
فعندما ينطلق الناقد في تعاطيه مع النص الإبداعي مبدأ الحرية فإنه يبقى معرضا لمنزلقين إثنين على الأقل: فإما أنه يجعل من النص مجرد مطية للتوغل في تفاصيل نظرية ومنهجية وإيديولوجية تخص أو تخص المدرسة التي ينطلق منها وهو في هذه الحالة يبقى خارج الموضوع، وإما يغرق في الذاتية والانطباعية المفرطة وهذا ما يؤدي حتما بالخطاب النقدي إلى التركيز ليس على ما قاله المبدع في نصه ولكن على ما كان ينبغي عليه أن يقوله: وهكذا يصبح مثلا النص الروائي محط دراسة الناقد دون اعتبار ما هو عليه ولكن كيف يتمناه الناقد أن يكون. والنتيجة المنطقية هي تحليق الخطاب النقدي بعيدا عن النص المدروس إذ لم نقل تحريفا لمضمونه وتشويها لجماليته”.
وعليه فإن التناول النقدي للنص الإبداعي يجب أن يعتمد عدة مقاييس موضوعية تمكن من مناقشة الخطاب النقدي على أسس علمية وموضوعية يمكن إيجازها باستراتيجية القراءة ومنطلقاتها النظرية والمنهجية، وبتحليل البناء الداخلي للخطاب النقدي وفق العلاقة المرجعية مع النص الإبداعي موضوع النقد مع تعليل أحكام الناقد وإدراك إشكالية وحدود التأويل في الخطاب النقدي يؤطر ذلك كله الحصيلة المعرفية حول النص الإبداعي ضمن سياقه ومفرداته وتراكيبه، والبحث في لغة النص ومنهجه وليس الناقد.