الاستقصاء والاستعلاء
ظلت العلاقة الإنسانية منذ بداية الخليقة تقوم على المفاهيم التي يكونها المرء من مرتكزات القيم التي يؤمن بها ومن مناهج الخلق الذي يحكم تصرفه ومن مجموع التجارب التي اكتسبها ضمن مجتمع التواصل والتفاعل مع الآخر. ويبلور هذا كله عقل مدرك ومنطق مستنبط وهوى نفس تتفاوت درجات أثره سلبا أو إيجابا طرديا مع كل ما سبق مما ذكرنا.
أما مرتكزات القيم فيحددها المعتقد وقوة الإيمان به أكان هذا المعتقد دينا أو فلسفة أو رؤية ذاتية للحياة وللكون. ولئن كان هناك قيم مثلى يتفق عليها البشر جميعا على اختلاف ألوانهم ومعتقداتهم كالصدق والرفق والعفو والسماحة فإنهم يتفاوتون في تعريف بعض قيم أخرى كالحب والعيب والعدل والوفاء، ويعود هذا التفاوت للمؤثر المحيط أكان من منطلقات المجتمع الذي يعيشون فيه أو من مناهج الوعي الذي يتمتعون به أو من غلبة الهوى على منطق الفطرة أو من فلسفة التعاطي مع المعايشة وفق مفهوم الأثرة أو الإيثار ووفق آليات التبرير التي قد تكون مكارثية أو مكيافيلية أو أفلاطونية بما يقود العقل لعميلة موجهة لأحكام مسبقة وبأطر جامدة محددة.
“إن الحكم الرشيد على الأشياء وعلى الأشخاص يحتاج إلى شمولية النظرة، وموضوعية الرؤية وتجرد الهوى ووعي المفهوم” د. سمير العمري
وأما مناهج الخلق فتنبثق من مرتكزات القيم وتتبلور من مجموع التجارب لتترسخ في النفس حالة تدافعية تؤطر لآليات تعامل تسم المرء فيعرف بها وترسم ملامح شخصيته النفسية والعاطفية فتنعكس على تصرفاته تأثيرا وتأثرا، ومنها نجد الشخصية الرزينة والشخصية الانفعالية، والشخصية الواثقة والشخصية المتوجسة المرتابة وهكذا.
أما مجموع التجارب المكتسبة فهي مؤثر مهم جدا في صقل الحالة المعرفية وتحديد أو تجديد معالم البناء الذاتي للشخصية، بل هو مكون أساس لآلية إصدار الأحكام وتفسير العلاقات والتصرفات عند المرء ذاته، فمن اعتاد الصدق قدمه أساسا للتعامل فيرى الآخر صادقا حتى يثبت لديه العكس ومن اعتاد الكذب قدمه أساسا كذلك فيعتبر الآخر خائنا حتى يثبت العكس، والوفي تعامل بالثقة كأساس والغادر تعامل بالتوجس كأساس وهكذا. ولعل في هذا ما يفسر القول المأثور “كل إناء بما فيه ينضح”.
وإن منظومة الحكم عند المرء تتباين بقدر ما يحمل من قيم مثلى وبقدر ما عايش تجارب وبقدر ما هذب خلقه وصقل آلياته، ويلعب هوى النفس عاملا مهما في كل هذا إذ إنه يميل غالبا إلى التبرير وإلقاء أخطائه أو خطاياه على الآخر ويمارس دور الواعظ ليقنع نفسه وغيره عبثا بأنه البريء أو الضحية، أو يسوق العقل للوم البيئة والواقع واعتبارها السبب في هذا كله متغافلا بوعي مغرض أو بجهل معرض أن الصدأ يحتاج مشاركة تفاعلية بين الحديد والرطوبة والحرارة وإن الذهب لا يصدا ولو أحاطت به كل تلك العوامل وأكثر ذلك أن جوهره نقي فلا يتأثر معدنه إلا تلويثا سطحيا يمسح بيسر بخرقة من قماش ليعود براقا زاهيا كما كان وسيكون.
وعليه فإن الحكم الرشيد على الأشياء وعلى الأشخاص يحتاج إلى شمولية النظرة، وموضوعية الرؤية وتجرد الهوى ووعي المفهوم. وإنه لا يصح أن ينشغل الفقيه مثلا في شرح حكم الجماع في نهار رمضان إن كان السؤال “ما حكم الزنا في نهار رمضان؟” فإن الحكم إنما يقوم على الأصل الشرعي ولا على النتيجة الفرعية. وإن من الحكمة مراعاة الحكم المعياري والحكم الاعتباري في تفسير الأشياء والحكم عليها ذلك أن الاعتبار لا يمثل المعيار؛ فإن اعتبر المرء الوفاء خيانة فهذا لا يجعله كذلك إلا عنده فحسب، وإن اعتبر المرء الشرعية انقلابا أو الانقلاب شرعية فهذا لا يغير الحكم المعياري القائم على الأسس والناموس الإنساني بحكمه الاعتباري القائم على الهوى والغرض أو على الجهل أو التجاهل، فالحق أحق أن يتبع.