د. سمير العمريفكرفلسفة وأخلاق

القناعات وأثرها في المفاهيم

أقرب التفاسير لدلالة لفظة القناعة من حيث الدلالة اللغوية هي الأخْذُ بِالفكرة و الارْتِياحُ إلَيْها عَلَى أنَّهَا هِيَ الصَّوابُ وَالحَقِيقَةُ والإذعان النفسيّ لما تم توفيره من أدلَّة عليها، وهي بذلك ليست مواقف عابرة أو آراء لحظية بل لعلها أشبه بأحكام متصلبة عصية على التغيير تتسم بالاستمرارية النسبية، وهي من حيث الدلالة السيكولوجية دافع للسلوك وموجه للميول والانفعالات والتفاعل باعتبار رسوخها في الوجدان ، ويمكن بذلك تعريفها نفسيا باتجاه نفسي موجه للسلوك ومتحكم بالتفكير.

وتتشكل القناعات في بدايتها بتفسير ذاتي أو خارجي أو بتلقين مباشر أو غير مباشر بمهارة توصيل عالية، لمواقف أو مشاهد سجلتها الذاكرة وأضفت عليها قيمة معنوية ذات صلة بتوجيه مشاعرنا نحو ذواتنا وما حولنا واستقبالنا لما يحدث والتفاعل معه، وانطلاقا منها تنشأ الأفكار تجاه فئات ما وما يصدر عنها من مواقف، والاستعداد لسماع وتقبل ما يقال بشأنها استنادا للأفكار القائمة بحقها والمواقف المسبقة منها ، وقد يكون أهم ما يترتب على تلك القناعات هو التعميم وإصدار الأحكام المتسرعة والقرارات غير المنصفة وتوزيع الاتهامات والاجتهاد في نشرها وتبني المواقف الموافقة أو المخالفة دون احتكام للمنطق في طرحها أو للعقلانية في تبنيها.

ورغم أن أصعب القناعات هي التي ترسخت منذ الصغر , فإن تلك التي تغرسها في لا وعي المجاميع قوى مقتدرة أو متنفذة كالإعلام مهما بلغت حداثتها تكون أعتى على محاولات التوعية والتغيير، وذلك لاعتماد المؤثر وسائل لا تقف عند غرسها بل تعمد لتأكيدها وتجديدها بالتكرار وباختيار الألفاظ والكلمات الملهبة للمشاعر والموجهة للانفعال مدعمة بالصورة المقتطعة معزولة عن محيطها، فتسلب وعي المتلقي باستيلاء الطرح على حاستي الاستقبال الرئيسيتين السمع والبصر، وتحدّ من قدرته على التفكر فيما يرى ويسمع، وتعتمد خلق الأنماط للشخوص والجهات المقصودة بتوجيه الشرائح المستهدفة، فتركز على صفة ذات أثر متفق وما هو مطلوب، وتأخذ في إبرازها وإثباتها وتكريسها في اللاوعي الجمعي لتلك الشرائح المستقبلة، لتصبح صورة نمطية أكيدة للمقصود تتبادر بقالبها للذهن حال ذكره وتصنع ردّة الفعل المطلوبة إيجابية أو سلبية ..

وقد يعتبر بعضهم القناعات برسوخها قيما ومبادئ ينافح عنها فيكون التداخل بين المرجعية الثابتة والمكتسب التأثيري، وينفلت المرء بذلك من عامل فاعل في صناعة الحضارة، منطلقه في سعيه بها مرجعية ثابته ضابطا وحاكما ومقوِّما لكل أمره صواباً أم خطأ؛ هي المرجع الشرعي القرآن الكريم وسُنة المصطفى، و غايته النهوض بواقع الأمة وإعادة مجدها وصناعة حضارتها، ليتحول إلى معول هدم سلبي، يتحرك بيد محرك قناعاته وموجه انفعالاته.

كما و تنحدر القناعات بحامليها لما هو أسوأ وأردأ حين تغرق في السلبية فتؤدي بالمؤمن بها للتوقف الذاتي عن التقدم في مسارات الحياة بدعوى اليقين من لا جدواها، فتجذب بذلك الأفراد ومن ثم المجتمع بأكمله إلى الخلف، مما يجعل من فهم عقلاء الأمة لدور القناعات في صناعة الواقع ودفع أو تعطيل المسيرة تبعا لإيجابيتها وسلبيتها واشتغالهم على تغيير السلبي منها بالإيجابي والمثبط منها بالدافع أهم وأنفع للأمة من اشتغالهم على دفع الأفراد باتجاه العمل بينما تحركهم قناعاتهم باتجاه غيره.

ولا شك أن بناء الذات أولا يعتبر الدعامة الأساسية للتصدي لسيل الموجهات المخلّقة للقناعات ذات الأغراض الخادمة لصنّاعها، فالرضا عن الذات يعني التحصن بسياج من الأحكام التي يحملها الفرد عن نفسه، ويساعده على تبني توجه فكري متين يتحدى التشريب ويعتمد التفكير والتدبّر في كل ما يسمع ويرى ، وينتهج التحليل المنطقي والتعامل مع الرسائل التوجيهية التي سيبثها المؤثر أيا كان نوعه بعيدا عن التوجه الذاتي لتلبية نداء الهوى ونباح المصالح ووشوشات الميول.

إن الأمة تعاني اليوم من أثر هذا الاختلاط في المفاهيم ومن التلاعب الفاضح على المصطلحات بما أدى لحالة من النفاق الفردي والجمعي فأصبح الصادق كاذبا والكاذب صادقا والأمين خائنا والخائن أمينا والمجرم مصلحا والمصلح مجرما. هي حالة تزيد من حالة التردي الحضاري الذي تعاني منه الأمة ولن يصلح الأمر إلا تجرد المرء من الهوى ثم تحري الحق والحقيقة في الحكم ومن ثم التصدي لهذه المهمة الصعبة لنهضة أمة يوجه الأعلام فيها من لا يوجهه الإعلام.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى