بين العلم والفهم
العلم قيمة في ذاته وقيمة لمن يحمله فهو من أجل وأجمل السمات الإنسانية. والعلم هو المعرفة وإدراك الشيء بحقيقته والاطلاع على كنهه بشكل يقيني. وقيمة العلم تأتي من باعث إسهامه الحقيقي في الرقي الإنساني عقيدة وحضارة وتطورا فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وإن للعلم منابع ومشارب شتى وفروعا متعددة لا تزال تتسع تخصصا بما يصعب حصره ويرهق إحصاؤه. وللعلم درجات وللعلماء طبقات فمنهم المختص ومنهم غير ذلك ومنهم صاحب علم وآخر صاحب علوم متعددة ومنهم الراجح الحجة ومنهم الطامح اللجة ومنهم العاقل القمين ومنهم الناقل الأمين؛ درجات بعضها فوق بعض تتكامل لتشكل مشهدا إنسانيا علميا أساسه التفاضل والتمايز واحترام المكان والمكانة.
وليس ثمة ما يفوق العلم إلا الفهم، والفهم هو إدراك المكنونات والإحاطة بالشيء وحسن تصور المعنى وجودة استعداد الذهن للاستنباط. وبهذا لا يصح مطلقا أن يكون ثمة ترادف في المعنى بين العلم بالأمر وفهم الأمر ولا يجوز الخلط بينهما بحال. ويمكن القول ببساطة بأن كل فاهم عالم وليس كل عالم فاهما. فالفهم هو جزء من الحكمة بل لعله كان أساس الحكمة التي تنطلق ارتكازا عليه. ولئن كان العلم يكتسب فإن الفهم ليس مثله وإنما هو منحة خالق وخصلة مخلوق، ولذا قال تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، وقوله تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}. ولتأكيد الفرق بين العلم والفهم قال تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، ونجد هذا أيضا في قوله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}؛ فالعلم بالأمر تم ولكن فهمه والإحاطة بمكنونه لم يتحقق ولذا كان الخطأ والخطل.
وليس أعظم خطلا من الخلط بين معنيي العلم والفهم إلا التوهم بهما أو بأيهما بما يدفع المتوهم إلى حالة من التعدي والجهالة جهل علم وجهل خلق، وأكثر ما يكون هذا من أنصاف المثقفين أو المتعلمين ممن حفظ بعض نقل أو حتى أعمل بعض عقل فبات يفتي للناس ويخطئ غيره ويحقر رأيهم وبات يرى نفسه صاحب الرأي الصواب وغيره في استلاب وتباب. ولقد انتشر مثل هذا في زمننا حيث تيسر الوصول للمعلومة الكترونيا من خلال محركات البحث أو من خلال الكتب الالكترونية فيكون النقل والجدل بمراء لا هو بلغ لب العلم ففهم وغنم ولا هو أجل أهله وتعلم فسلم وغنم.
إن العلم قمة وقيمة ويدعى إليه، وصاحب العلم ممن يقدم ويحترم، ولكنه بدون الفهم يظل قاصرا وغير قادر على الإحاطة فلولا تبصر المرء وتحرى الحق فاجتهد في تحصيل العلم وأجل أرباب الفهم وأهل الاستنباط بدلا من التجني والتسلق والمراء كمن يلوك الماء، وليدركوا الفرق بين علم الشيء وفهمه فلا يكون ممن يحفظ من الكتب ما يتشابه ويستشهد بما لا يتعلق كي لا يصدق عليه قول الخالق الكريم {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}. وليتذكروا بأن الحكمة فضل من الله وأنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} صدق الله العظيم.