نقد

الانزياح التركيبي في شعر سمير العمري (3-4)

الجزء الثاني من المقالة

 الالتفات

ينبني الالتفات في البلاغة على تغيير الخطاب من فرد إلى آخر، فالذي يطرد في اللغة أن تذكر الأسس والدوال في المكان اللائق بها، لكنّ الشاعر قد يقوم بتحوير هذا النمط التعبيري لتحقيق ما تصبو إلىه النفوس من جمالية التعبير ومصداقيته، لأنّ هذا الخروج والحياد عن النمط التعبيري يحقق له ما لا يحققه الالتزام بقواعد اللغة المعيارية، فالتغيير الذي ينتاب قوانين اللغة يؤدي إلى تكوين البؤرة الدلالية للنص الشعري عبر تحريك الدوال من مكان إلى مكان آخر، وهذا مما يخلق للغة ثماراً لا تدرك إلا عبر التغيير وكسر القوانين في اللغة المألوفة.طبعًا، تعدّ تقنية الخطاب من التقنيات البيانية الهامّة التي تطرق إلىها علماء البلاغة منذ غابر الأزمان وقطفوا ثمارها وحصروها «في التكلم والخطاب والغيبة مطلقًا بنقل كلّ واحدة منها إلى الآخر»([1]). نلاحظ أيضًا في البلاغة الحديثة أنّ تواجُد الضمير ودوره في التعبير عن هذه التقنية استحوذ على هذا الأسلوب البياني لما يهتمّ بمتلقٍّ دون آخر، فتمحور الالتفات حول  أنّ «الالتفات هو التعبير عن معني بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر»([2]).

 من نماذج الالتفات ما ورد في شعر العمري حيث يقول:

أُحِبُّكِ يا قِبلةً يا بلدي

وبِتِّ كأنّكِ مائي وزادي

فلاتُنكريني

أ ليس الحبيبةُ تسقي المُحبَّ ولو بعضَ رشفٍ؟

لماذا جحدتِ حضورَكِ فينا؟

لماذا قبلتِ الخَصِيَّ وَصيا

وكيف دعوتِ إلى مهرجانكِ يا قدسُ كلَّ العصافير؟

أنا شاعرُ القدس

لماذا تُصرُّ العروبة فيكِ؟

دعيني أموتُ على راحتيكِ

ويومَ أموتُ سأُبعَثُ حيا([3])

نلاحظ عبر هذه الأسطر الشعرية أنّ الشاعر قام بتكوين أهرام التواصل الثلاثة بينه وبين الملتقّي والنص المقروء عبر تقنية الانزياح التركيبي الذي حاول من خلاله شدّ انتباه المتلقي واستنهاض هممه من جانب، وإثراء النص المبدع وتحديد رؤاه الفكرية من جانب آخر. يتبين لنا عبر هذه الأسطر أنّ الشاعر يحاول تغيير مرجعياته التي تمتّ بصلة وطيدة إلى الحالة الشعورية التي تنتابه ويجعل المتلقّي مدهشًا ومتحيراً للعثور على هذه المرجعيات التعبيرية الناتجة عن الالتفات الذي يمهد السبيل لتسريب الدلالة بين جنبات النصّ بطريقة تخالف المألوف، فالمخالفة وتجاوز اللغة المألوفة الذي حققته كافّة الانزياحات جعل النص يتّسم بالمفاجأة التي يتمحور النص حولها لترسيم العلاقة بين الشاعر ونصه المبدع. فلا بدّ للقارئ أن يتوقف مع هذه الحالة المدهشة التي تفارق المألوف عادةً ويخالف بنية النص اللغوية التي اطمئنّ إلىها وألفها ويلتجأ إلى التساؤل والتأويل.

نلاحظ عبر الأبيات الشعرية أنّ الشاعر ينتقل من الخطاب (أُحبُّ/ بِتِّ/ لا تُنكريني) إلى الغيبة (الحبيبة)، ثم يتابع هذا النمط مرة أخري من الماضي (جحدتِ/ قبلتِ/ دعوتِ) نحو المتكلّم (أنا) للتأكيد على الحضور رغم الإيحاء بغيابه وأخيراً يحيل بنا نحو الغياب (تصرّ العروبة).وهذا الأمر- أعني الالتفات- موضوع طبيعي تقتضيه طبيعة الرؤية الجديدة التي يمتزج فيها النفسي والروحي والشعري ويتفاعل من أجل إضاءة الموقف أو تأزيم الظروف المعيشة.فلا ريب أنّ هذا الالتفات ينجرّ إلى كسر التراتب الزمني والرؤيوي عبر استدعاء أفق معرفي جديد.

هناك نمط من الانزياح التركيبي الذي يعدّ أقلّ مساحة من انزياح الضمير، منه العدول في زمن الأفعال حيث نلاحظ في الشطر الأخير من النصّ أنّ الشاعر يستلهم النص القرآني حيث يقول الله جلّ وعلا: ﴿وَالسَّلَامُ على يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾([4]). لا ريب أنّ هذه الخاصية الالتفاتية تخلق في ذاتية المتلقي الشعور العميق بالنشوة والتواصل عبر المفردات التي تضفي على النصّ تعدداً دلاليا. ومن هنا يتأكد أنّ اللغة «مع الشعر المعاصر تتحول شيئًا فشيئًا إلى حقل للتأمل ويتصاعد فعل الدوال في بناء النص في البدء وتلحظ نزوع الشعراء نحو البحث عن لغة تعتمد معجم الحياة اليومية المعيشية» ([5]).

 فالمتلقي رغم مجهود كبير لا يحصل على فحوى القصيدة وقصيدتها لتعدد الاتجاهات. فالأمر لا يتوقف على استلهام هذه الآية الشريفة فحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل التحوير والتغيير في نصها الشريف حيث ينقل الفعل المضارع المبني للمجهول (أُبعَثُ) إلى زمن الاستقبال(سأبعث) تعبيراً عن روية أعمق عبر النسيج الشعري. فالشاعر يعتقد بأنّ الفراق والهجر سوف يتمّ وينتهي، وسوف يعود إلى أبناء الوطن وسيشمّ تراب الوطن ويحتضنه وسوف تندحر قوات الاحتلال. يشير الشاعر ههنا إلى بداية يوم جديد ومحبوب لا يشوبه أي غدر ولا خيانة، فالانبعاث والحياة الجديدة ذلك المحور الفكري الجديد الذي يمثله هذا الشطر الأخير فإنّ السياق الذي وردت فيه هذه الآية المباركة يحيل بنا نحو فكرة الانبعاث والخلق الجديد، وهذا يعيدنا إلى النص حيث استخدم الشاعر معني الاستقبال كاشفًا عن التجديد والاستمرار وهذا ما يمثل فكرة الحياة لدي الشاعر بكل جوانبها. فالحياة سوف تستمرّ رغم الاحتلال والقسوة والقصف ومصادرة الأموال والتهجير.

هذا النمط البياني مما يجعل المتلقي في الدهشة والتشرّد حيث لا يستطيع العثور على المعني المراد في بداية الأمر، حينما «يمثل الالتفات خاصية بارزة في حركة الصياغة موضعيا، حيث تتحور اللفظة في موضعها تحورًا غير مألوف يفرز دلالة فيها كثير مما لا يتوقعه المتلقّي وفيها كثير من إمكانات المبدع في استعمال الطاقات التعبيرية الكامنة في اللغة»([6]). من النقاد من ذهب إلى أنّ كسر الرتابة ودفع الملل من أهم الوظائف التي ينطوي الانزياح التركيبي عليها، فقاموا بتحديد أبعاده وإمكانياته ومن ثمّ اعتقدوا بأنّ الحسن من سماته البارزة لأنّ الكلام «إذا نقب من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظًا  للإصغاء إلىه من إجرائه على أسلوب واحد»([7]).

 التكرار

يعدّ التكرار سمة بارزة في الشعر العربي الحديث وظاهرة تجدر بالعناية والاهتمام لما له من دور هامّ في بناء القصيدة العربية الحديثة، «فقد جاءت على أبناء هذا القرن فترةٌ من الزمن عدّوا خلالها التكرار لونًا من ألوان التجديد في الشعر» ([8])، ويشتمل على إمكانيات تعبيرية وجمالية وإيقاعية تجعل الشاعر أو المتكلم يرتفع بالنص الشعري إلى مرتبة الأصالة والوجود بالنسبة إلى مكانته في النقد الأدبي القديم الذي «ظلّ في إطار محدود سواء في أنماط بنائه أو في دلالاته» ([9]).

مما يجدر بالذكر أنّ ديوان الشاعر مكتظ بأنماط التكرار المختلفة من تكرار الاسم، الفعل، الحرف، الجملة، تكرار البداية مما يسهم في ترسيخ المعني وشدّ انتباه المتلقّي، إلاّ أنّنا لا يتسع لنا المجال لمعالجة كافّة هذه الأنماط والمستويات المختلفة، ومن ثمّ يشار إليها بصورة موجزة.

من نماذج قوله ما يقول:

وهل مِن سبيلٍ لِنسيان أرضٍ

سكنتُ سواها وتسكنُ فيَّا؟

وهل من سبيلٍ لإنكار شوقٍ

أَحنُّ إلى الأرض والأهلِ والصحبِ

أحنُّ إلى البحرِ عنذ الغروبِ

أَحنُّ إلى قبر أُمّي

أحنُّ إلى غَزَّةَ العِزِّ

لكن أَحنُّ إلى القُدسِ أكثَر

وأكثَر([10])

من الواضح عبر هذه المقطوعة الشعرية أنّ الشاعر يعالج تقنية التكرار لما فيها من طاقات إبداعية كامنة في تصوير ما يخامر نفسه وتثير في كيانه لواعج الشعور بالغربة والحنين إلى الوطن الأمّ حيث تجعله قادرًا على تجسيد الصورة الحقيقية والمعاناة النفسية التي يعيشها. لقد أدّي توظيف التكرار إلى تنامي النصّ وانفتاحه على الدلالات الجديدة التي تجعل الشاعر الحديث يكسر الرتابة التكوينية للنصّ وتلك الحالة النفسية الأحادية التي تسيطر على النصّ، وهنا تتبلور فكرة الخروج من قيود البنية الأحادية التي تكبّل الانطلاق النفسي والشعوري لدي الشاعر ليمارس انفلاتًا قويا للهروب من سلطة النصّ وآلياته المعيارية. تمثّل هذا الوعي واتساع الرؤية في قدرة الشاعر على التجاوز وكسر الرتابة، فالشاعر ههنا يبحث عن تجارب جديدة أكثر عمقًا ودلالة.

نجد الشاعر عبر هذه الأسطر قام بتكرار عدة كلمات من بين الاسم والفعل المضارع والحرف، وكل هذه الألفاظ تدلّ على مدي آلامه وأوجاعه تجاه الوطن المحتل.لا ريب أنّ الشاعر قام بتوظيف هذه التقنية ليتخذها أداة ناجعة ومطواعة لتجسيد ما انتابه من هموم  إنسانية ودخائل نفسية عارمة اعتصرت كيانه و بذلك تكسب همومه وآلامه حضورًا وتأثيرًا في نفسية المخاطب.

لقد وفّق الشاعر في استثمار هذه التقنية الفعّالة مع الكشف عن ذلك الخيال الوارد في النص والموسيقي الناتجة عن حسن التوظيف والدلالة الصوتية والموسيقي الخارجية من تلك الألفاظ المستخدمة داخل النسيج من أجل التعبير عن عمق المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني المضطهد.

إنّ المتأمل في هذه الأبيات الشعرية يجد أنّ الشاعر حاول عبر تقنية التكرار أن يخلق نمطًا من الانسجام والتلاحم الذي يثير اهتمام المتلقّي بعد أن يفرغ شحناته النفسية برمّتها. ومن ثمّ يسهم التكرار في إبراز الفكرة المركزية للقصيدة التي تتمحور حول الصمود والعودة إلى الوطن ومسقط الرأس حيث جعله بؤرة مركزية لمبدأ الانعتاق والانفلات والرفض لهذا الواقع المؤلم الذي يسعي للخلاص منه ومن كل ما يؤلمه. وجدنا عبر تدقيق النظر في المقطوعة أنّ الشاعر أكثر من ترداد الفعل المضارع (أَحِنُّ) خمس مرّات للتمثيل لحظة الحضور وتوفُّر الهياج الفكري والنفسي تجاه الوطن المسلوب، فتعود أهمية هذا الجانب الزمني إلى أنّه يعلن كل ما يعانيه وبذلك يفيض الوجدان المشترك في بنية النص. ومن هذا المنطلق، يشعر المخاطب بتكرير دلالات الاستمرار والدوام وهذا هو مقاساة الشاعر الروحية التي صارت جزءًا من أفكاره ورؤاه. إذن، فتكرار هذا الفعل المضارع يكشف عن نمط من الحوار بين الشاعر وبين المتلقّي الذي حاول الشاعر عبره تأسيس علاقة التوحّد بين شعوره وشعور المخاطب ووسيلته الفاعلة ويكشف عمّا يحمله اللفظ المتكرر من وقع انفعإلى على المخاطب ومدي انفعال الشاعر الذي أخذ ينمو ويتسع مع نموّ التكرار الذي تمكن من نقل الحالة الخاصّة إلى المتلقّي ليثير إحساسًا في وجدانه. فجاء هذا التكرار حاملًا في تضاعيفه أبعادًا إيحائية وإنسانية تتلاحم مع الموقف الذي يعيشه الشاعر. ومن ثمّ يقوم هذا التكرار بدوره في الكشف عن هذه المشاعر والأحاسيس الكامنة وصار أداة فعّالة وطيعة في إيحاء نسق علائقي وبؤرة دلالية خصبة تنطلق من بنية النص وتمتدّ لتشمل معظمه. ومن هنا تبلورت قيمة التكرار في «قدرته على عكس التجربة الانفعالية عند الشاعر، وتجسيد معاناته والكشف عن جوانب خفية في النص الشعري من خلال الوقوف عند الألفاظ والمعاني المكررة التي أسهمت في تشكيل الجوّ العامّ للنص»([11]).

الجزء الأخير من المقالة

01- السكاكي،2000م،86.
02- نفسه.
03- العمري،2015م،191.
04- سورة مريم:33.
05- بنيس،1985م،55.
06- عبدالمطلب،1995م،188.
07- المراغي،1984م،129-128.
08- الملائكة،1967م،230.
09- السيد،2006م،142.
10- العمري،2015م،185.
11- كنوان،2002م،122.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى