ثقافة المصطلحات
يعتمد الإنسان في إدراك محيطه على الحواس التي يمتلكها من سمع وبصر وحس وشم وتذوق، وتشكل الحواس هذه وسيلة العقل في التفسير والتسيير للمحيط بما يوافق، بل ويصل الأمر إلى التصرف دون إعمال للعقل بالعملية التلقائية أكان هذا بخاصية الارتداد العصبي المباشر أو من خلال التعود على قوالب نمطية للحدث ووسائل تناوله. ويشكل هذا حالة عامة لارتباط المرء بالطبيعة وتفاعله من البيئة لتأمين حالة من الأمن أولا ثم حالة من الأمان والرؤية الإنسانية الشاملة ثانيا.
ولعل من بين أهم وسائل العلاقة هذه بين الإنسان وبيئته حاسة السمع والتلقي والتي تمثل فيها الأصوات عموما واللغة خصوصا أهمية قصوى في رسم الملامح النفسية والفكرية للمرء. ومن هذا المنطلق يكون اعتبار اللغة أكثر أهمية ودورها أكثر بروزا ذلك أنها لا تقف عند حدود التبليغ المرحلي أو الظرفي فحسب بل تتعدى إلى أن تمثل حالة جمعية للإدراك والوعي وترسم الملامح النفسية والفكرية كما أسلفت بما يرسم بالتالي حالة الأفراد والشعوب ومستقبل البلاد والأوطان.
“إن حرب المصطلحات إن جاز هذا الوصف قد أخذت منحنى تصاعديا كبيرا في السنوات الأخيرة في توظيف سياسي واضح للسيطرة على الشعوب وحكمها حكما جبريا قاهرا أو حكما دينيا جاهلا أو حكما أيديولوجيا فاسدا” د. سمير العمري
ولعل دور اللغة الكبير والذي تم تهميشه وتسفيهه وتسخيره لمآرب فئوية أو سياسية يحتاج إلى مراجعة حقيقية من كل حر صادق من نبلاء هذه الأمة ومن نبهائها ودور هذا في تفسير حالة التردي العام أخلاقيا وثقافيا وإنسانيا التي تصيب الأمة في هذا العصر.
ولئن كان دور اللغة مهم وأساسي بهذا القدر الكبير فإن الوعي بتأثير اللغة وطريقة استخدامها يتطلب وعيا بطبيعة الإنسان وتكوينه الخلقي والخلقي وتذكر أن العقل البشري يميل للنسيان من جهة ويميل “لفلترة” المعطيات وفق أطر عامة حينا وخاصة حينا بمعنى وجود حالة تعود عامة للعقل على أن يستقبل الأمور بمحدداتها المعتادة ويقيسها بالأنماط المقولبة المخزنة عنده في الذاكرة، وأما خصوصية التناول فتكون في انتقائية للمعطيات وفق ما يناسب الميول والأهواء؛ فيلتفت الفلكي إلى علوم الفلك أكثر والأديب إلى علوم اللغة أكثر والفقيه إلى علوم الشرع أكثر وهكذا في حالة معرفية ذات توجه محوري وتفرع منهجي يتضاءل فيه التحصيل المعرفي شيئا فشيئا حتى يصل لحالة التجاهل التام.
ومن هنا تبرز أهمية المصطلحات في توجيه العقل الإنساني من خلال إيجاد أنماط مقولبة وتقديمها وجبة معرفية ذات مظهر فاخر وتأثير باهر سهلة الهضم تعتمد التكرار في إحداث التأثير أكان هذا على المدى القصير أم كان على المدى الطويل. وطرح المصطلح المحدد لا يكون عبثا عادة أو خبط عشواء بل يتم اختياره بعناية من خبراء نفسيين وإعلاميين وغيرهم ممن يهمه الأمر لتحقيق غايات ومأرب محددة ليس كلها سيئا بالضرورة. وإن حرب المصطلحات إن جاز هذا الوصف قد أخذت منحنى تصاعديا كبيرا في السنوات الأخيرة في توظيف سياسي واضح للسيطرة على الشعوب وحكمها حكما جبريا قاهرا أو حكما دينيا جاهلا أو حكما أيديولوجيا فاسدا.
ولعل من بين أشهر هذه المصطلحات مصطلح “الإرهاب” والذي يتم تطويعه لخدمة أغراض كثيرة ويمكن مطه أو كمشه وفق الحاجة مع بقاء المصطلح في ذهن المتلقي بمعناه اللغوي كأساس للوعي والفهم ثم ينسحب بإدراك منه أو بغير إدراك على المعاني الأخرى التي يحملها له من أطلقوه فيكون التلقين الفكري والنفسي المباشر أو التدريجي وصولا لمرحلة بات فيها مصطلح الإرهاب هو الإرهاب نفسه وبات أثره السياسي واضحا وأثره الحضاري بارزا خصوصا في ربط هذا المفهوم بالإسلام حتى عند المسلمين أنفسهم للأسف.
وفي الأدب ينتشر مصطلح الحداثة كبهرج براق وخداع يرسم بتقارب المعنى اللغوي حالة التطور والرقي ولكنه يحمل في مضمونه الفكري حالة من الانقلاب المنهجي والتبعية الثقافية والانفلات الأخلاقي والارتداد الأسلوبي، ولو عذلت مسمى قصيدة النثر مثلا قال لك أمثلهم طريقة ما هو شعر ولا نقول بهذا. ففيم إذن إلصاق النثر بمصطلح قصيدة والتي ترسم في الخاطر معنى محدد وارتباط محدد إلا أن يكون هذا من باب المخاتلة والمداخلة وخلط السمن بالعسل.
ولعل من بين المصطلحات الخطيرة أيضا مصطلح “الشرق الأوسط” كبديل عن مصطلح “الوطن العربي” والذي أدى مع الأيام إلى ترسيخ ما أريد منه أكان من خلال فك الارتباط العربي والانتماء للهوية أو من خلال فسح المجال للقبول بدول غير عربية في قلب الوطن وربما لا سمح الله يكون في قبلته أيضا.
إن تعداد مثل هذه المصطلحات الكثيرة دينيا وسياسيا وأدبيا لا يمكن حصره في هذه المقالة وإنما يمكن توضيح الأثر الخطير لكل هذا على المفاهيم ذلك أن المصطلحات ترتبط بالمفاهيم بل وترسم ملامحها العامة وسماتها الخاصة في عملية لا تتوقف وصولا لحالة الهيمنة الفكرية والتوجيه النفسي للأفراد وللشعوب. وعليه فإني أقرع الجرس مرة تلو مرة وأحذر من خطورة التساهل في تقبل المصطلحات غير الصحيحة وغير المرتبطة بفهم صحيح فهي لن تنفك تنخر في جذع العقل حتى تصل جذوره وتفسد أسس المنطق القويم عاجلا أم آجلا.