نقد

آلیات التماسك النصي في شعر سمير العمري قصیدة “القدس” نموذجًا (3)

⇒ الجزء الثاني

العطف (Conjunction)

یعدّ العطف وسیلة من وسائل الترابط النصّي التي تعمل في إطار منسجم علی التعبیر عن مضمون واحد للمقاطع الشعرية والتي أخذت حیزاً  أکبر في الترابط بین مفردات وجمل وأبیات المقطع الشعري، فضلاً عن دور حروف العطف بفضل ما تحمله من معان مختلفة في تکوین البنی الدلالية المتضاربة، بالتالي، فإنّ لها شأناً یذکر في الربط النصّي بنوعیه الشکلي والدلالي. بنی “فان دایك” مجموعة من المصطلحات التي نستطیع من خلالها أن نصنّف التنظیم الداخلي للوحدات النصية، ویمکن أن نطلق علیها الروابط، من ذلك العطف الذي یدلّ علی تقوية العلاقات بین الجمل المؤلفة للنص أو لجزء منه([29]). تعدّ الواو من أکثر الحروف وروداً في القصیدة (قصیدة القدس)، إذ وردت في عشر ومئة موضعاً حیث أقامت علاقات دلالية وترابطية بین المقاطع الشعرية وزادت من سمة التماسك والانسجام بین الوحدات النصية.

من نماذج ما ورد في القصیدة:

أرنو فیُنهکُني التأمّلُ حسرةً

وإخالُ من عسفِ التأسُّفِ أتلفُ([30])

ویهزّني فَرَقُ التفرُّقِ عُنوةً

فأذوبُ من حَدَمِ الأنینِ وأُدنَفُ

واللهُ ما وعَدَ الیهودَ بأرضِه

أَبَدَ الدُّهورِ ولا بأنّهم اصطُفُوا

ما حُلّفوا إلاّ وخانوا ذِمّةً

أو کُلِّفوا إلاّ وعنه استنکفوا

إنّا تضاریسُ الملامح والمدی

والأمسُ والغدُ والثّری والزخرفُ([31])

 

 

نلاحظ في ثنایا المقطوعة أنّ الواو لیست أداة الترابط فقط، بل وسیلة تجعل الخطاب الشعري أکثر فعالية حیث تعمل علی تقدیم المعلومات الأکثر عبر ترابط المواقف الشعورية وتکثیف الدلالة مما یؤدي إلی إثراء موضوع السیاق وإخصابه.

یتبین لنا عبر هذه الأسطر الشعرية أنّ الواو تساعد بشکل کبیر علی تماسك القصیدة وتلاحمها، إذ اتکأ الشاعر علیها کأداة وصل رئیسة في الترابط بین عری النص وجمله. نلاحظ عبر هذه الأسطر الشعرية المذکور أعلاها أنّ الواو تشکّل المفتاح الرئیس لتفاعل الشاعر مع الأحاسیس والمشاعر الدفینة حیث تعطي النص المبدع قوة صاعدة للعمق الدلالي وإضاءة اللوحة الانفعالية وعندما یزداد المدّ الانفعالي نشاهد أنّ الشاعر یستعین بالواو ویکرّرها، وهذا یدلّ علی أنّ الواو «تعلّق العنصر اللاحق بالسابق أي المعطوف بالمعطوف علیه تعلیقاً بنیویاً، والواو الرابطة هي التي تحقق الربط بین الجمل»([32]). لقد عبّرت الواو في هذه المقطوعة عن مشاعر الشاعر تجاه القضیة الفلسطینية مصورة تلك الأحاسیس والآلام التي انتابته واعتصرت نفسیته إثر الاحتلال الأجنبي للوطن الأمّ، فعملت الواو علی تکوین نمط من أنماط الاتساق المعرفي والدلالي ضمن خارطة النص الشعري. إذن، فالجمل والعبارات داخل النص الشعري لم ترد اعتباطية ولا عشوائية، بل یوجد بینها عنصر الربط فتکون الجمل مترابطة متماسکة لتتشکّل وحدة مترابطة في الشکل والموضوع. من هنا تلعب الواو في تصویر المعاناة في شتی أقسامها وتأشیر الدلالات المتنوعة، لأنّ «العلاقة بین المعطوف والمعطوف علیه تجعل منهما شیئاً متماسکاً یربط بین أجزائه أداوت شکلية…حتی یکون النص کالکلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني»([33]).

أزمنة النصّ (verb tenses)

یعدّ عنصر الزمان في الدراسات اللسانية من أهمّ العناصر والوحدات النصية التي اهتم بها علماء اللسانیات،إذ تؤدّي معرفة الزمان إلی الکشف عن معنی الدلالات والمعاني الواردة عبر المنجز الشعري، فالزمان «جزء من بنية النص، وعنصر أساسي في تفسیره، فالنص جزء من زمن إنتاجه، وله دلالة في زمنه تختلف عن رؤية زماننا لهذا النصّ»([34]). إنّ المتأمل في هذه القصیدة یجد تعدداً کبیراً في توظیف الشاعر للأزمنة عبر الأسطر الشعرية حیث انجرّ هذا التعدد إلی تحقیق الانسجام في بنية القصیدة. یتبین لنا هذا الأمر عند إحصاء الوحدات الزمنية علی نحو ما ورد في المخطّط التالي:

الفعل عدد الورود
المضارع 123
الماضي 90
الأمر 17

نلاحظ عبر هذا المخطط أنّ الشاعر عمد إلی توظیف الفعل المضارع بکثرة فطغی بذلك علی سائر الأزمنة الأخری،فصار المضارع ذلك الزمن المسیطر والمهیمن علی خارطة النص الشعري وهذا یدلّ علی عنایة الشاعر واهتمامه بالزمن الحاضر الذي یحاول خلاله تجسید ما انتابه من مشاعر وأحاسیس مکبوتة للمتلقي لعلّه یشعر بها ویری ما یعانی الشاعر ویکابده.

من نماذج قول الشاعر:

یا قدسُ تَرسُفُكِ القیودُ فلیتني

في القیدِ دون عظیم قدركِ أرسُفُ

وعلی جبین الفخرِ أکتبُ من دمي

آیاتِ مجدٍ بالإباء تُشَنِّفُ([35])

أ من العدالةِ أن تُؤَجَّجُ نارُهم

ویُذَفُّ کلُّ من اشتکی ویُعنَّفُ

تشتاقُ من جبلِ المکبِّرِ صرخةً

عُمريّةً تأبی الهوانَ وتأنفُ([36])

کلما حاول المتلقي إنتاج النص وإعادته یتکوّن لدیه الشعور العمیق بعلاقته التبادلية مع النص عبر حرکية أزمنة النص مما یجعله قادراً علی التفاعل والتعامل معه، إذ یسوقه مساق المغامرة في خضم القصیدة متفاعلاً مع العناصر والمکونات اللغوية لإضاءة خبایاها واستخراج کوامنها.

لقد وفّق الشاعر في توظیف المضارع لترسیم ما حلّ بالوطن المحتل في الأزمنة السابقة وما یقوم به الکیان الصهیوني من ممارسات إجرامية ومجازر بشعة تستمرّ حتی یومنا الراهن للدفع بالزمن نحو الدیمومة. من ثمّ تدوم مظاهر الغدر والخیانة في الزمن الماضي لتشمل الزمن الحاضر ولم تنتهِ جرائم الحرب بحقّ هذا الشعب بانتهاء الزمن الفیزیائي وتتأرجح في دائرة حضور الزمن بین الدیمومة والحدیثة.

فالقصیدة لا تُعرف ولاتحدّد بزمن الخطاب فقط، بل بالتشابك مع زمن الموضوع. وهذا مما یتضح لنا عبر علاقة الأزمنة الثلاثة خاصة المضارع بالهرم اللغوي للقصیدة.

جاءت هذه الکثرة الکثیرة من الأفعال المضارعة عبر النسیج الشعري لتدلّ علی الاستمرار والحرکة الدؤوب والتوکید. یتضح لنا عبر تدقیق النظر في الأسطر الشعرية أنّ الأفعال المضارعة لم تحدث الآن فقط، وإنما حدثت في الزمن الماضي لتمتدّ إلی الزمن الراهن. فیمکننا القول إنّ الشاعر استطاع عبر البنية الزمنية تمثیل قدرته الإبداعية ومقدرة اللغوية إثر استخدام الأطر الزمنية وتحکیمها ضمن النسیج الشعري حیث أسهمت هذه البنية الزمنية إسهاماً کبیراً في تحقیق الترابط والتماسك في عالم النصّ الشعري وتعامل المتلقي مع النص.

النتیجة

توصّل البحث إلی جملة من النتائج التي کانت محصلة لما ورد في متن الدراسة وتتمثل هذه النتائج في الآتي:

1- یعتبر النصّ أکبر وحدة لغوية قابلة للتحلیل ضمن علم اللغة النصي وینبني تحلیل النصوص الأدبية علی هذا المنهج علی معاییر مختلفة من منظور علماء اللسانیات، غیر أنّ أهمّ المعیار یتعلق بالنص ذاته هو الاتساق والانسجام أو ما یعرف بالتماسك النصي.

2- یتمحور تحلیل المعطیات الأدبية حسب التماسك والانسجام حول محورین هامّین: المحور الشکلي والمحور الدلالي بغية تحقیق الانسجام بین الأفکار والمواقف الشعرية.

3- لقد عملت آلیات التماسك النصي علی الاحتفاظ بکینونة النص واستمراریته مما تجعله یتسم بالحیوية والدینامیکية، إذ تجعل المقاطع الشعرية کقطعة متلاحمة منسجمة تهدف إلی الکشف عن الترابطات والعلاقات الداخلية التي توطّد بنية النص.

4- ثبت البحث في التحلیل إلی أنّ انسجام النص واتساقه ظهر بصورة واضحة في عناصر عدّة، منها الإحالة والاستبدال والحذف والتضام والتکرار والتغریض وبیّن علاقة هذه العناصر بالمنهج النصّي.

 5- لا ریب أنّ للمتلقي دوراً محوریاً وبارزاً في تحلیل النصّ واستیعابه عبر فهم لغة النص وسیاقه.

6- کل نصّ شعري یدور حول مواضیع مختلفة توزّعت عبر الأسطر الشعرية، ومن ثمّ تنقسم المقاطع الشعرية إلی أقسام تمتّ بصلة إلی عنوان القصیدة وهذا مما یؤدّي إلی الانسجام الدلالي للقصیدة.

المصادر والمراجع

ابن منظور، جمال الدین محمد بن مکرم، لسان العرب، بیروت، دار صادر، 1978م.
أحمد، بن أحمد، البنية الإیقاعية في شعر عزالدین المناصرة، القدس، منشورات اتحاد الکتاب الفلسطینیین، د.ت.
أبوخرمة، عمر، نحو النصّ، نقد النظرية وبناء أخری، الأردن، عالم الکتب الحدیث، ط1، 2004م.
أبوزنید،عثمان، نحو النصّ، إطار نظري ودراسات تطبیقية، الأردن، عالم الکتب الحدیث للنشر والتوزیع، ط1، 2010م.
بحیري،سعید حسن، علم لغة النص، المفاهیم والاتجاهات، بیروت، مکتبة ناشرون، ط1، 1997م.
بوقرة،نعمان، المصطلحات الأساسية في لسانیات النصّ وتحلیل الخطاب دراسة معجمية، الأردن،عالم الکتب الحدیث،2009م.
بلال،عبدالرزاق، مدخل إلی عتبات النص، المغرب، الدار البیضاء، 2000م.
الجزار، محمد فکري، العنوان وسیمیوطیقا الاتصال الأدبي، مصر، الهیئة المصرية العامة للکتاب، 1998م.
الداودي، زاهر مرهون،الترابط النصي بین الشعر والنثر، الأردن، دار جریر، ط1، 2010م.
دي بوجراند، روبرت، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمّام حسان، القاهرة، عالم الکتب، ط1، 1998م.
حماسة، محمد، بناء الجملة العربية، مصر، دار الشروق، ط1، 1996م.
خطابي، محمد، لسانیات النص مدخل إلی انسجام الخطاب، بیروت، المرکز الثقافي العربي، ط1، 1991م.
الشاوش، محمد، أصول تحلیل الخطاب، تونس، المؤسسة العربية للتوزیع، ط1، 2001م.
الفقي، صبحي إبراهیم، علم لغة النص بین النظرية والتطبیق، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزیع، 2000م.
عکاشة، محمود، تحلیل النص دراسة الروابط النصّيّة في ضوء علم اللغة النصي، د.م.ن، مکتبة الرشد ناشرون، ط1، 2014م.
العمري، سمیر، دیوان کفّ وإزمیل، القدس، دار الجندي للنشر والتوزیع، ط1، 2015م.
فتحي رزق، خوالدة، تحلیل الخطاب الشعري، أزمنة للنشر والتوزیع، عمان- الأردن، 2006م.
فتحي، أبومراد،شعر أمل دنقل دراسة أسلوبية، عالم الکتب الحدیث،ط1، الأردن، 2003م.
عفیفي، أحمد، نحو النصّ، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001م.
النجار، نادية رمضان، علم لغة النصّ والأسلوب بین النظر والتطبیق، مؤسسة حورس الدولية، مصر، 2013م.


29- أبوخرمة، نحو النصّ، نقد النظرية وبناء أخری، عالم الکتب الحدیث، ط1،الأردن، 2004م،ص19.
30-العمري، السابق، ص20.
31- المصدر نفسه، ص25.
32- الشاوش، أصول تحلیل الخطاب، المؤسسة العربية للتوزیع، ط1،تونس، 2001م،ص37.
33- أبوزنید، نحو النصّ، إطار نظري ودراسات تطبیقية، عالم الکتب الحدیث للنشر والتوزیع، ط1، الأردن، 2010م، ص132.
34- عکاشة، تحلیل النص دراسة الروابط النصّيّة في ضوء علم اللغة النصي،مکتبة الرشد ناشرون، ط1، د.م.ن، 2014م،ص52.
35- العمري، السابق، ص31.
36- المصدر نفسه، ص27.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى