أَشعَلَتِ الشَّمعَةَ المُعَطَّرَةَ العَاشِرَةَ أَمَامَهَا ثُمَّ انْثَنَتْ فِي رِقَّةٍ تُلَمْلِمُ أَطْرَافَ شَالِهَا المُخْمَلِيِّ عَلَى ثَوبِهَا الحَرِيرِيِّ ، وَأَسنَدَتْ خَدَّيهَا عَلى رَاحَتيهَا تَتَأَمَّلُ فِي صَمْتٍ تِلكَ الثُلُوج التِي تَهْطلُ بِرِفقٍ وَهُدوءٍ مِن خَلْفِ نَافِذَتِهَا ، تَتَرَقَّبُ بِشَوقٍ ظَاهِرٍ وَقَلَقٍ بَادٍ لا يَمْنَعُ بَسْمَةً هَادئَةً أَنْ تَسْكُنَ أَطْرَافَ شَفَتَيهَا. كَانَتْ قَدْ أَعْتَدَتْ لَهُ مُتَّكَأً عَلى أَرِيكَةٍ وَثِيرةٍ ، وَزَيَّنَتْ المَائِدةَ بِمَا يُحِبُّ مِن طَعَامٍ ، وَأَطْلَقَتْ مِن زَاوِيَةٍ بَعِيدَةٍ رَجْعَ مُوسِيقَى هَادِئَةٍ يَرُوقُ بِهَا. أَجَالَت النَّظَرَ مَرَّةً أُخْرَى لتَتَأكَّدَ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ عَلَى مَا يُرامُ ثُمَّ عَادَت تُسْنِدُ وَجْهَهَا عَلَى رَاحَتيهَا وَتَتَرَقَّبُ فِي هُدُوءٍ وُصُولَهُ.
عَشْرُ سَنَوَاتٍ مَرَّتْ مُنْذُ التَقَتْهُ ، وَمَا زَالَ هَذَا الوُدُّ يَكْبُرُ حَتَّى بَاتَ حُبًّا بَنَى لَهُمَا بَيتًا أَسَاسُهُ المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالاحْتِرَامُ المُتبَادَلُ. ابْتَسَمَتْ وَهِيَ تَسْتَعِيدُ ذِكْرَياتِ السِّنِين الدَّافِئَةَ وَالعِشْرَةِ الطَّيِّبَةِ وَالآمَالَ وَالآلامَ. قَدْ أَسْعَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ وَوَفَّرَ لِي حَيَاةً أَحْبَبْتُهَا وَمَا مَسَّنِي بِسُوءٍ قَط حَتَّى وَإِنِ انْزَعَجَ أَو تَبَرَّمَ. هُوَ مَا انْفَكَّ مَعِي سَمْحًا كَرِيمًا وَلَسْتُ أَدْرِي لِمَ أَشْعُرُ بِهَذَا الفَرَاغِ فِي صَدْرِي وَهَذَا القَلَقِ يَعْتَرِينِي مُنْذُ شُهُورٍ.
التَفَتَتْ نَحْوَ صُورَتِهِمَا حَيثُ ابْتَسَامَتُهُ وَابْتِسَامَتُهَا وَمَدَّتْ يَدَهَا تَرْفَعُ الصُّورَةَ وَتُقَبِّلُ ابْتِسَامَتَهُ تِلكَ ، تُناجِيهِ بِبَعْضِ وَلَهٍ وَوَجْدٍ ثُمَّ تُعِيدُهَا إِلى مَكَانِهَا. لِمَ هَذَا الوَجْدُ يَجْتَاحُنِي؟؟ وَلِمَ أَشعُرُ بِهِ حَائِرًا وَأَرَاهُ وَجِيدًا تَهْرُبُ نَظَرَاتُهُ مِنِّي وَبَعْضُ دَمْعٍ حَبِيسٍ فِي عَيْنَيهِ يُفْصِحُ؟ لَيتَهُ يُصَارِحُنِي بِمَا يُؤْلِمُهُ فَأُهَدْهِدَ رُوحَهُ وَأُلَمْلِمُ شَتَاتَ مَشَاعِرِهِ. لَيتَهُ يُفْصِحُ لِي عَمَّا يُتْعِبُهُ فَلَيسَ ثَمَّةَ مَنْ يَهْتَمُّ لَهُ وَلِرَاحَتِهِ مِثْلِي!
انْتَبَهَتْ مِنْ خَيَالِهَا إِذْ وَصَلَ فَسَارَعَتْ وَهِيَ تَمْسَحُ بَقَايَا دُمُوعٍ بَرِيئَةٍ وَتَرْسِمُ بَسْمَةً كَبيرَةً تَسْتَقْبِلهُ بِهَا تُغَالِبُ وَجْدَهَا . قَبَّلَ جَبِينَهَا وَضَمَّهَا بِحُنُوٍّ ثُمَّ ابْتَسَمَ شَاكِرًا مَا يَرَى مِنْ حَفَاوَةِ اللِقَاءِ ونَسَائِمِ العِطْرِ فِي الأَجْوَاءِ. أَمْسَكَتْ يَدَهُ بِرِقَّةٍ بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلا الطَّعَامَ تَتْبَعُهُ إِلى حَيثُ المُتَّكَأِ وَهِيَ تَهْمِسُ بِدَلالٍ:
– اشْتَقْتُ لَكَ يَا جُوزِيفُ.
– وَأَنَا أَكْثَرُ يَا مَارِيَّا.
جَلسَ وَجَلَسَتْ ، وَعاَد الصَّمْتُ يَسُودُ المَكَانَ ؛ عَيناهَا تَبحًثُ عَن عَينيهِ الهَارِبتينِ حَتَّى اصْطَادَتهُمَا بِنَظْرَةٍ وَدَمْعَةٍ. تَنَحْنَحَ مُرْتَبِكًا ثُمَّ قَالَ:
– هِيَ زَمِيلَتِي فِي العَمَلِ. لَسْتُ أَعْلَمُ كَيفَ تَسَلَّلَتْ إِلى قَلبِي الذِي يُحِبُّكِ حُبَّا جَمًّا. حَاوَلْتُ الهَرُوبَ وَحَاوَلَتْ فَلَمْ نُفْلِحْ. تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحِبُّكِ وَأُرِيدكِ وَلَكنَّنِي مُتَعَلِّقٌ بِهَا أَيضًا بِشَكلٍ يَستَولِي عَلَيَّ وَأَشعُرُ بِحُبِّهَا وَحَاجَتِي لَهَا. هِيَ لَيستْ أَجْمَلَ مِنْكِ وَلا أَرَقَّ وَلَكنْ بِينَنَا مِنَ الاهْتِمَامَاتِ والمُيُولِ مَا يَجْعَلُنِي لا أَسْتَطِيعُ إِلا أَنْ أُحِبَّهَا وَأُرِيدَهَا.
– ….
– أَنَا أُصَارِعُ مَشَاعِرِي هَذِهِ مُنذُ حِينٍ وَأَهْرُبُ مِنْ كُلِّ شِيءٍ إِلَيكِ ؛ أَنْتِ التِي لا مِثلكِ حُنُوًّا وَرِقَّةً وَوَفاَءَ ، وَلَكِنِّي أَفْشَلُ وَأَتَأَلَّمُ بَينَ رَغْبَتِي بِكِ وَرَغْبَتِي بِهَا.
مَالَ عَلَيهَا – وَقَد خَذَلَتْهُ عَينُهُ – وَضَمَّهَا بِرِفْقٍ:
– سَامِحِيني حَبيبَتِي ، مَا قَصَدْتُ أَنْ أُؤْذِيَكِ بِشَيءٍ وَأَنْتِ مَنْ أَغْدَقَ عَلَيَّ بِحُبِّهِ وَاحْتَمَلَ مِنِّي نَزَقِي وَشَارَكَنِي الحَيَاةَ بِحُلوِهَا وَمُرِّهَا.
– لا تَعْتَذِرْ حَبِيبي! لا كُنْتُ وَلا كَانَ مَنْ يَضْطَرُّكَ لأَلَمٍ أَو اعتِذَارٍ!
غَالَبتْ تَمْسَحُ دُمُوعًا ثُمَّ أَرْدَفَتْ:
– أَنْتَ عِنْدِي كُلُّ هَذِهِ الحَياةِ وَمَا أَرَدْتُ يَومًا سِوَاكَ ، وَلَيتَ فِي القَانُونِ مَا يَسْمَحُ فَأَظَلُّ زَوْجَكَ مَا عِشْتُ ، وَتَكُونُ هِيَ لَكَ زَوجًا أحْتَرمُ وُجُودَهَا في حَيَاتِكَ ، لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لا يَسْمَحُ بِهِ قَانُونُ الدَّولَةِ وَلا حَتَّى الكنِيسَةُ ، وهَا بَاتَ عَلَيكَ أَنْ تَخْتَارَ بَينَنَا غَيرَ مُذَمَّمٍ ، وَإِنِّي لَولا أَنْ تَظُنَّ بِي غَضَبًا مِنْكَ أَو نُفُورًا عَنْكَ لَسَارَعْتُ أُفْسِحُ لَهَا المَكَانَ الذِي يَسْعَدُ بِهِ قَلْبُكَ وتهْنَأَ بِهِ نَفْسُكَ.
اتَّصَلَتْ بِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ تُعَدِّدُ مَنَاقِبَ جُوزِيفَ وَتُوصِيهَا بِهِ خَيرًا وَتَتَمَنَّى لَهُمَا السَّعَادَةَ وَالسُّرُورِ وَتَسْتَأْذِنُهَا فِي أَنْ تَكُونَ صَدِيقَةً لَهُمَا تَطْمَئِنُ عَلَيهِمَا بَينَ الحَينِ وَالحِينِ
.
أَغْلَقَتِ الهَاتِفَ وَالتَفَتتْ إِلَيهِ تُغَالبُ دَمْعةَ فِرَاقٍ بَابْتِسَامَةِ وُدٍّ وَقَالَتْ:
– أَتَمَنَّى لَكُمَا السَّعَادَةَ ، وَسَأَكُونُ لَكَ دَومًا حَيثُ وَضَعْتَنِي لا يَكُونُ مِنِّي إِلا مَا تُمْلِيهِ فُرُوضُ الحُبِّ الصَّادِقِ. هَلْ تَسْمَحُ لِي بِالاحْتِفَاظِ بِهَذِهِ االصُّورَةِ ذِكْرَى عَهْدٍ مُحَبَّبٍ جَمِيلٍ؟
عَانَقَهَا وَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَاخْتَلَطَتْ بَينَهُمَا دُمُوعُ الشَّوقِ وَالفِرَاقِ.
**************
لَمْلَمَ يُوسُفُ بَقَايَا أَورَاقِهِ بَعْدَ يَومٍ جَامِعِيٍّ طَوِيلٍ ، وَأَسْرَعَ يَلْبسُ مِعْطَفَهُ الثَّقِيلِ مُحَدِّقًا عَبْر النَّافِذَةِ يَنْظُرُ لِنَهَارٍ شُتْوِيٍّ تَكَادُ تَتَفَطَّرُ مِنْ بَرْدِهِ أَكْبَادُ الصُّخُورِ. كَانَ عَليهِ أَنْ يُسْرِعَ لإتْمَامِ بَعْضَ أَوْرَاقٍ عَلَى مَكْتَبِهِ فِي عَمَادَةِ الكُلِيَّةِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ لِتَسجِيلِ بَرْنَامَجٍ مُهِمٍّ لإِحْدَى القَنَواتِ الفَضَائِيَّةِ.
– هَذَا مِلَفُّ طَالبٍ يَرْجُو فِيهِ إِعْفَاءَهُ مِن الرُّسُومِ الجَامِعِيَّةِ لِظَرفِهِ الصَّعْبِ ، وَهَذَا مِلَفٌّ جَهَّزْتُهُ لَكَ حَولَ دِرَاسَتِكَ “تَأثِيرُ الحَالَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ عَلى مُسْتَوَى التَّحْصِيلِ”. سَأُجَهِزُّ لَكَ الآنَ فِنْجَانًا مِن القَهْوَةِ وَأُحَضِّرُ لَكَ بَعْضَ أَورَاقٍ تَخُصُّ لِقَاءَكَ التِّلْفَازِي بَعْدَ قَلِيلٍ.
ابْتَسَمَ لَهَا مُمْتَنًّا ثُمَّ أنْهَمَكَ فِي إِنْهَاءِ المِلَفَّاتِ سَرِيعًا قَبلَ أَنْ يَدْهَمَهُ الوَقْتُ. هِيَ زَمِيلَتُهُ أَسْتَاذَةٌ تُشَارِكُهُ تَخَصُّصَهُ وَبَعْضَ مَسؤُولِيَاتٍ جَامِعِيَّةٍ أُخَرٍ ، لَكِنْ كَانَ لِلقَدَرِ مَسَارُهُ وَلِلقَلْبِ قَرَارُهُ فَقَدْ شَغَفَهَا حُبَّا بَدَمَاثَتِهِ وَوَقَارِهِ وَرُقِيِّ هِمَّتِهِ. وَمَا زَالتْ تُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِهَا وَتَتَفَانَى فِي رِضَاهُ وَرِعَايَتِهِ بِرِفْقٍ وَصِدْقٍ حَتَّى وَجَدَ قَلْبَهُ يَنْسَاقُ إِلَيهَا بِلا تَكَلُّفٍ وَنَفْسَهُ تُنَازِعُهُ مَيلَهُ إِلَيها وحِرْصَهُ عَلَى زَوْجٍ يَودُّهَا وَيَسْعَى فِي سَعَادَتِهَا وَرِضَاهَا لا يَرُدُّه عَنْ ذَلِكَ مَا يَجِدُ مِنْهَا مَن كَدَرِ مُغَالِبٍ وَجَدَلِ مُجَاذِبٍ.
لَمْ يَنْسَ مَا كَانَ مِنْ كَدَرٍ أَثَارَتَهُ البَارِحَةَ فَاشْتَرَى طَاقَةَ وَرْدٍ أَنِيقَةٍ فِي طَرِيقِهِ لِلبَيتِ بَعْدَ لِقَاءٍ نَاجِحٍ. لَقَدْ أَحَبَّهَا وَتَوَدَّدَ لَهَا رَغْمَ زَواجِهِ التَّقْلِيدِي وَألْزَمَتْهُ أَخْلَاقُهُ أَنْ يَحْتَمِلَ مِنْهَا وَأَن يَجِدَ لَهَا العُذْرَ تلوَ العَذرِ ، وَاحْتَوَاهَا فَلَمْ يَضِقْ يَومًا ذَرْعًا بِمَا سَاءَهُ مِنْ نَزَقِهَا وَتَجَاهُلِهَا لِمَشاعِرِهِ بَلْ وَاسْتِخْفَافِهَا بِقَدْرِهِ الذِي يَوَقِّرُهُ الجَمِيعُ.
دَخَلَ البَيتَ بِابْتسَامَةٍ عَرِيضَةٍ يَبْحَثُ عَنْهَا حَتَّى وَجَدَهَا تَحْتَسِي القَهْوَةَ بِعُبُوسٍ ظَاهرٍ زَادَ فِي أَثَرِهِ شَعَرٌ لَمْ يُسَرَّحْ وَمَلابِسُ لَمْ تُهَنْدَمْ. جَلَسَ إِلَى جِوَارِهَا يَحْتَضِنُهَا فَدَفَعَتْهُ عَنْهَا. قَدَّمَ لَهَا طَاقَةَ الوَرْدِ مُبْتَسِمًا فَأَمْسَكَتَهَا تَنْظُرُ باسْتِخْفَافٍ وَقَالَتْ:
– أَهَذَا كُلُّ مَا قَدِرْتَ عَليهِ؟
– لا شَيءَ فِي الكَونُ أَثْمَنُ عِنْدِي مِن ابْتِسَامَتِكِ يَا مَرْيَمُ ، وَلَمْ يُسْعِفُنٍي وَقْتِي اليَومَ لأَكْثَرِ مِنْ هَذَا ، وَالوَرْدُ جَمِيلٌ عَاطِرٌ كَشَوقِي وَعِشْقِي.
– هَذَا مَا أَجِدُ مِنْكَ دَومًا ؛ كَلامًا رَقِيقًا تُخَاتِلنِي بِهِ ، وَحَدِيثًا عَنْ شِوقٍ وَعِشْقٍ لا أَجِدُهُ مِنْكَ ، وَوَرْدًا لا قِيمَةَ لَهُ تَظُنُّ أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ رِضَاي.
– هَلْ سَتَبْدَئِينَ مُجَدَّدًا؟ عَشْرُ سَنَواتٍ عِشْناهَا سَوِيَّةً لَمْ أحْرِمْكِ مِنْ شَيءٍ مَادِّيًّا كَانَ أَو مَعنَويَّا ، أَمْسَكْتُكِ بِمَعْرُوفٍ وَحَفِظْتُكِ فِي نَفْسِي ، وَاحْتَمَلتُ مِنْكِ الجَورَ حُكْمًا وَالكَدَرَ عاَدَةً وَالجُحُودَ استِزَادَةً ، وَحَرِصْتُ جَهْدِي لأَكُونَ لَكِ نِعْمَ الزَّوْجِ الحَافِظِ وَالشَّرِيكِ الحَانِي ، وَلَستُ …..
– أَأَنَا مَنْ يَبْدَأُ أَمْ أَنْتَ؟؟ عَشْرُ سَنَواتٍ وَأَنَا أَحْتَمِلُ مَعِيشَتِي مَعَكَ وَمَا عُدْتُ أُطِيقُ هَذَا. أَنْتَ لا تُقَدِّرُ قِيمَة ما عِندِك أَمْ تُرَاكَ نَسِيتَ كَمْ تَقَدَّمَ لِي مَنْ هُمْ خَيرٌ مِنكَ ، وَكَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يُوَفِّرُوا لِي حَيَاةً أَفْضَل مِنْ حَيَاتِكَ المُقْرِفَةِ هَذِهِ. وَيحِي كَيفَ رَفَضْتُهُمْ وَقَبِلْتُ بِكَ! سَامَحَ اللهُ أَبِي.
– وَسَامَحَ اللهُ أُمِّي ، وَلَكِنِّي أُوَفِّرُ لَكَ حَيَاةً كَرِيمَةً وَأُسْرَةً مُحْتَرَمَةً وَأَحْفَظُكِ بِالمَعْرُوفِ.
حَاولَ أَن يَضُمَّهَا إِليهِ بِوُدٍّ فَدَفَعَتهُ عَنْهَا بِغِلْظَةٍ. صَمَتَ قَليلا يَبْتَلِعُ أَلَمَهُ ثُمَّ أَرْدَفَ:
– تَعْلَمِينَ يَا مَرْيَمُ أَنَّكِ مَنْ يَبَادرُ غَالبًا إِلَى الكَدَرِ وَالجَدَلِ والتَّأَفُّفِ ، وَمَا أَتَيتُكِ دَومًا إِلا بِوُدِّي وَوَرْدِي ، فَمَا الذِي لا يُرْضِيكِ فِي حَيَاةٍ يَحلُمُ بِهَا الكَثِيرُ؟ هَلْ قَصَّرْتُ بِحَقِّكِ يَومًا؟؟ هَلْ قَسَوتُ عَلَيكِ يَومًا؟؟ هَلْ …؟
– لا أَعْلَمُ ، لا أَعْلَمُ! كُلُّ ما أَعْلَمُهُ أنَّكَ مُقَصِّرٌ مَعِي وَقَاسٍ في حُكْمِكَ عَلَيَّ.
– التَّقْصِيرُ وَالقَسْوَةُ مَعَانٍ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ وُجْهَاتِ النَّظَرِ وَمَآرِبِ النُّفُوسِ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِيهِمَا التَّجَرُّدُ وَالصِّدْقُ مَع النَّفْسِ ، وَأَنَا أُحَاسِبُ نَفْسِي تَهذِيبًا كُلَّمَا تَجَاوَزَتْ فَمَا مِنْ أَحَدٍ بَلَغَ حَدَّ الكَمَالِ فَهَلْ بَلَغْتِ؟
– يَكْفِينِي جَمَالِي هَذَا وَكَانَ عَليكَ أَنْ تَكُونَ شَاكِرًا أَنِّي زَوجُكَ. مَنْ كَانَ سَيَقْبَلُ بِكَ إِلا حَمْقَاءُ مِثْلِي؟.
ابْتَسَمَ بِمَرَارَةٍ وَهُوَ يَنْظُرُ بِهُدُوءٍ إِلَى لِبَاسِهَا وَشَعَرِهَا وَعُبُوسِهَا. تَنَهَّدَ عَمِيقًا بِينَ حَيرَةٍ وَأَسٍف. كَانَ كَثِيرًا مَا يُرَاجِعُ أَمْرَهُ مَعَهَا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا ؛ يَأْسَفُ مِنْ تَبَرُّمِهَا وَجُحُودِهَا وَيَتَأَلَّمُ مِنْ إِصْرَارِهَا عَلى أَنْ تَحْشُرَهُ فِي زَاوِيَةِ الاتِّهَامِ بِظُنُونَ لا تُوجَدُ إِلا فِي مُخَيِّلَتِهَا ، وَاليَومَ وَجَدَ نَفْسَهُ أَكْثَرَ إِلحَاحًا فِي أَنْ يوَاجِهَ حِيرَتَهُ وَتَرَدُّدَهُ وَأن يَرحَمَ نَفْسَهُ التِي لَطَالمَا آثَرَ عَلَيهَا ، وَقَرَّرَ.
– حَسَنًا يَا مَرْيَمُ ، فَهُنَاكَ مَنْ تَقْبَلُ بِي وَهِيَ رَاضِيَةٌ رَاغِبَةٌ فَخُورَةٌ ، وَلَعَلَّهُ قَد حَانَ الوَقْتُ لأَتَزَوَّجَ بِهَا.
– مَاذَا؟ هَا أَنْتَ تكْشِفُ عَن غَدْرِكَ وخِيانَتِكَ ، وَسَأَعَلِّمُكَ دَرْسًا لَنْ تَنْسَاهُ إِنْ لَمْ تَتَرَاجَعْ عَنْ قَرَارِكَ هَذَا وتَعْتَذِرْ لِي.
– كَلا لَنْ أَتَرَاجَعَ. وَأَنَا لم أَغْدُرْ وَلَمْ أخْدَعْ وَإِنَّ الذِي أَبَاحَكِ لِي هُوَ مَنْ أَبَاحَ غَيرَكِ. أَنَا لَنْ أَتَخَلَّى عَنْكِ ولَنْ أَهْضِمَ حَقَّكِ ، وَلَكِنِّي أُرِيدُهَا أَيضًا وَأَحْتَاجُهَا.
أَسْرَعَتْ إِلى صُورَتِهِمَا المُعَلَّقَةِ فِي زَاوِيَةٍ مُهْمَلَةٍ عَلَى الجِدَارِ وَنَزَعَتْهَا نَزْعًا ثُمَّ أَلْقَتْهَا عَلَى الأَرْضِ بِنَزَقٍ لِتُحَطِّمَهُ بِهَا إِلى شَظَايَا مِنْ هَشِيمٍ. أَمْسَكَتْ الهَاتِفَ وَهِيَ تُزْبِدُ بَحْثًا عَنْ أَرْقَامِ أَهْلِهَا:
– سَتَنْدَمُ ، وَسَتَدْفَعُ الثَّمَنَ غَالِيًا!
أَمْسَكَ الصَّحِيفَةَ وَهُوَ يَتَحَسَّسَ جُرْحًا فِي رَأْسِهِ وآخَرَ فِي قَلْبِه يَقْرَأُ بِحَسرَةٍ عُنْوَانًا رَئيسِيًا “أُسْتَاذٌ جَامِعِيٍّ يَتَعَرَّضَ لِهُجُومٍ هَمَجِيٍّ مِنْ قِبَلِ مَجْهُولِينَ” ، ثُمَّ التَفَتَ إِلى وَرَقَةٍ وَصَلَتْهُ صَبَاحًا مِنْ مُحَامِيهِمْ تُطَالِبُهُ بِالمُثُولِ أَمَام المَحْكَمَةِ لِدَفْعِ النَّفَقَةِ وَالمُقَاضَاةِ فِي طَلَبِ مُخَالَعَةٍ.