تشخيص الحالة الشعرية
إن من أحد أهم معضلات الأمة في هذا الزمان حالة الأثرة والبحث عن الصالح الشخصي على حساب الصالح العام والمنهج الصواب فلا تكاد تجد من يغرس شجرة بيمنى إلا ومد اليسرى مباشرة ليحصد ما غرس غير عابئ إن كان نضح الزهر أو نضج الثمر، ولا يكاد يجد المرء من يعمل بمنطق أن من سبق غرس فأكلنا ونغرس فيأكلون. والمؤلم المؤسف في هذه الحالة لا تتوقف على الأثرة بل تتعداه إلى العجب بالرأي وعدم احترام القدر ولا القدرة بما نتج عنه حذلقة الجاهل على العالم وهرطقة السفيه على النبيه ومن ثم ضياع الحق والرشد بين جدل وعضل واستكبار واستنكار.
ولعل من أهم ما دفع ثمن هذه الحالة العربية الثقافية المحبطة ديوان العرب الذي هو أجمل الفنون الإنسانية قاطبة فبات نهبا لكل مدع وسوقا لكل ناخس باخس حيث استبيح قدر الشعر العربي واستخف دوره حتى بدا كسلعة بائرة ومحل سخرية متعمدة، وبات يطلق على كل سجع أو أي كلام فيه بعض لغة فصيحة شعرا وباتت تردده القنوات الإعلامية باعتباره شعرا، بل إنني أتذكر أن النشيد المعتمد لأحد الجامعات العربية الكبيرة والتي تدرس الأدب العربي وعلوم اللغة مكسور عروضيا وتشوبه بعض هنات لغوية. ومن خلال هذا الواقع تأثر التلقي سلبا ليس على مستوى العوام بل حتى على مستوى الخواص والأدباء بل والشعراء، وتدهور المشهد الثقافي العربي عموما والمشهد الشعري خصوصا بما لا يمكن السكوت عنه ولا التغاضي عن أمره؛ فالشعر لن يبرح صاحب الدور المهم والقدر المعلى ولا يمكن كذلك إهمال ارتباطه الشرعي المهم ولا دوره التربوي للرقي بالنفوس.
وبالطبع هنالك عوامل بالغة الأثر في إضعاف كل شيء مهما بلغت قوته، ليس على صعيد الشعر والأدب فحسب بل وعلى أمور كثيرة غيره. وإن مما أسهم في الذي عاناه الشعر من تراجع في عصوره الأخيرة والتي باتت فيها العربية غريبة في بلادها وأهلها اجتماع عوامل عدة يطول شرحها وإني سأكتفي الآن بالإشارة وباقتضاب إلى أهمها.
أما أحد أهم الأسباب فهو الشعراء والأدباء أنفسهم فالكبير مستنكف والصغير مستكبر وكل منشغل بنفسه وبحرفه وكل لا يأبه لصالح الشعر والأدب ناهيك تسلل عدد كبير من مدعي الشعر والأدب رغبة في المجد المدعى. والوسط الأدبي مليء للأسف بكل ما هو سلبي ونرجسي وطعن وتزييف ومجاملات وشلليات ونقاد يتاجرون بالحرف تزييفا وتضليلا فيجملون القبيح ويقبحون الجميل في حسابات مادية أو مصلحية بحتة.
“الحالة العربية لا تظهر بشريات ولا تحث على همة في نظر الجل من أبنائها ولكن الأمة لا تعقم الأبرار الأحرار ولا تعدم الكبار الكرام، وسيكون دوما من يغرس الفسيلة ويثابر رغم كل شيء” د. سمير العمري
ولا يمكن إغفال حقيقة أن هنالك فئة من الشعراء ممن لم يعجزهم الشعر وإنما أعجزهم الوعي عن الاتصال بقضايا الأمة فانشغلوا بكتابة الغزل والوجدانيات في وقت تخوض فيه الأمة فيه معركة وجودها بكليّته، ففقد الشعر دوره في الذهن العربي قدره ومكانته في وعي الجماهير.
سبب آخر مهم في المشهد الشعري العربي هو الإعلام المستلب بمطامع مصلحية أو انتماءات وتبعية لجهات وتوجّهات تصب جميعا في بوتقة الجهد الاستشراقي للنيل من اللغة العربية وفنونها كخطوة باتجاه النيل من دستور الأمة الذي أنزله الله قرآنا عربيا، فإعلامنا متأرجح بين ثلاث فإما تجاري لا غاية له غير الكسب ولا اهتمام بغير الغرائز والحاجات المادية المباشرة، أو رسمي موجه يصب في أقنية الأنظمة فلا حصة فيه لثقافة أو أدب إلا ما يساير تلك الأنظمة ويوظف الحرف في خدمتها والترويج لطرحها، أو مستعبد أسير الروح والفكر والنهج لطامع نفعي في الداخل او استعماري مدمر في الخارج، وهذه الفئة الأخيرة تستفيد بقوة من محدودية الاهتمامات الثقافية –إن وجدت- لدى القادة وصناع القرار بأنواعه في المنطقة العربية، مما ساعدهم في خلق حالة من الإهمال للحراك الثقافي والأدبي العربي بل وربما محاربته.
ومن بين ذلك أيضا محدودية أفق القائمين على الأقسام الأدبية في المنابر الإعلامية، والذين يركبون الموجة التي تحظى بالتصفيق دوليا غافلين أو متغافلين عن الاختلافات الفكرية والحضارية بين الثقافات لعدم امتلاكهم القدرة المعرفية التي تخولهم إلى فهم ذلك والبناء عليه في تأطير عمل أقسامهم بما يخدم الأمة ويفي بواجبات أدوارهم في مواقعهم. هذا أدى إلى ظهور تلك الشريحة من أشباه الأدباء وأدعياء الأدب ممن تصور بتأثير تلك السنوات التي اكتسح فيها التيار الحداثي المشهد العربي أن الأدب ليس إلا هذرا وتهويما، فامتطى لعجزه عن امتطاء الخيل الأصيل للإبداع الحقيقي بغلة الجنوح للغموض والشذوذ وتناول موضوعات لا تمس الواقع ولا تصل المتلقي، وانتشر ما ينسب للشعر جورا وما هو بشعر فكان فساد البضاعة وكساد التجارة وكان الشرخ الأول بين الجماهير والمبدعين حتى الحقيقين منهم والذين لفظهم المجتمع في جملة من لفظ من المدعين.
ومن بين الأسباب أيضا عدم وجود الهيئات الثقافية الحقّة التي تحرص على إيصال الحرف والصوت الأدبي الأصيل الحرّ للمتلقي، سواء في مطبوعات دورية أو مستقلة، أو من على منابر مسموعة ومرئية أو غيره، ويلام في هذا المعنيون في الأجهزة الرسمية المسؤولة عن إجازة المطبوع ودور النشر التي لا تحرص على إبراء الذمة وتحقيق الهمة بعدم نشر ما لا يستحق، بل تقدم الكسب المادي على صالح الأمة فتساوم كل واهم لتمنحه اسم شاعر بحفنة نقود.
ولعل هذا فتح الباب واسعا أمام اتساع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتي تمثل سوقا شعبية يغلب عليها السفه والهذر والخدر، واكتفى كل أديب ببعض عميان من معارفه يصفقون له حتى ظن أكثر من يكتب فيها أنه أديب زمانه وعبقري أهله وأوانه. يضاف لهذا ما يمارسه العديد من الشعراء المميزين من تصرفات أدبية مراهقة وسياسة حك الظهر من جهة وسياسة طعن الظهر من جهة أخرى يحسب بعض هؤلاء أن زعم عرش الشعر يجعلهم أمراءه أو الطعن في من هم فوقه يجعلهم ورثته.
ولا ننسى أيضا حالة الاستقطاب السياسي الذي طغى على الساحة وصالح الساسة وأصحاب المراكز والمصالح بل وحتى تجار الأدب والكلمة في تهميش أحرار الأمة من المثقفين والأدباء وتقديم الموالين ممن يوظفون لاعتلاء المنابر المادحة المهللة لهؤلاء الساسة.
إنما يعيش المرء بالأمل والذي بدونه ينطفئ قنديل الحياة ويتوقف الوجود البشري، وكم من الرسالات الكبيرة بدأت صغيرة ضعيفة بشخص أو شخصين يزلقها الناس بأبصارهم حتى باتت بعد عقود رسالة أمم يتبعها الملايين. ورغم الحالة العربية المحبطة، وطبائع الناس، فإن المثقف الحقيقي لا يتقاعس عن حمل رسالة النهوض مهما كانت ثقيلة أو كانت طموحاتها كبيرة، الحالة العربية لا تظهر بشريات ولا تحث على همة في نظر الجل من أبنائها ولكن الأمة لا تعقم الأبرار الأحرار ولا تعدم الكبار الكرام، وسيكون دوما من يغرس الفسيلة ويثابر رغم كل شيء من أجل رسالة سامية وإعادة صياغة الواقع وتصحيح المسار والانتصار لدور الأدب ورفض التهميش وتشجيع حالة ثقافية أدبية حرة وناهضة تنتصر للخير والحق والجمال. وإن الله لا يتر أحدا عمله خصوصا إن قام خالصا لوجهه الكريم خادما للأمة وللناس.