نقد

مقاربة أسلوبية في قصیدة “ملحمة الصمود” لسمیر العمري (ج4)

⇒ الجزء الثالث

المستوی الترکیبي

تعتبر الجملة (الفعلية والاسمية) هي اللبنة الأولی التي تنبني علیها دراسة النص وقیل المراد من الجملة «ترادف الکلام،والأصحّ أعمّ،لعدم الشرط بالإفادة فإن صدرت بالاسم فهي اسمية وإن صدرت بالفعل فهي فعلية،أو ظرف أو مجرور فظرفية.» (السیوطي، 1998م: 48)

إنّ الممعن في هذه القصیدة یلاحظ أنّ الشاعر في معظم الأحیان عمد إلی توظیف الجملة الفعلية (129مرّة) أکثر من الجملة الاسمية (85 مرّة)،سواء کان فعلها ماضیًا أو مضارعًا وهذا یعود إلی ما یحمله النصّ من رغبة في الحرکة عبر الزمن،فالشاعر لا یحبّ السکون والوقوف،کما یتطلب الزمن الحاضر الحضور والتواتر وهذا یمثّل أزمة الشاعر التي تتمثل ضمن تجربته الشعرية.هکذا استطاع تجسید رؤیاه الشعرية ویصل الماضي بالزمن الحاضر لیجعل من هذه التجربة وسیلة ناجعة للإبانة عن تجربة إنسانية أوسع محورها الإنسان الفلسطیني المشرّد المطالب بالکرامة والحرية والهوية المسلوبة.

وردت الجملة الفعلية في هذه القصیدة أکثر من مئة مرّة لما فیها من ارتباط وثیق وکبیر بین الأحداث والوقائع في المجتمع الفلسطیني من جانب ومشاعر الشاعر وعواطفه الدفینة من جانب آخر حیث جعلته الجمل الفعلية أکثر قدرة علی التعبیر عن المکنونات القلبية والدخائل النفسية وتجسید الصراع النفسي المتمثل في الآلام والأوجاع.

نجد الشاعر في بعض الأسطر الشعرية یأتي بأکثر من فعلین وهذا یدلّ علی اهتمام الشاعر بالجمل الفعلية التي تمثل قضية الاحتلال الأجنبي وما أصاب الناس من مصاعب ونوائب شتی.من نماذج قوله في هذا المجال:

رموا صواریخ الجنون بخدعةٍ

غارت بها الأنفاسُ حین أغاروا
(العمري،السابق:149)

ظنوك یومَ سغبتَ أنّك خائرٌ

وقضوا بذلك یومَ طالَ حِصارُ

من أسّسَ البیت الأبي علی الهدی

وطغی الرَّدی فالبیتُ لا ینهارُ
(نفسه:151)

اللیلُ مهما طالَ زالَ وإن دجا

وتساقطت عن توته الأسرارُ
(نفسه:152)

إذ أسلموك إلی العدوّ وقد رجوا

أن یسحقوك من الوجودِ فباروا
(نفسه: 153)

کما نلاحظ أنّ الجملة الفعلية في هذه الأسطر الشعرية المذکور أعلاها تلعب دورًا محوریًا في الإبانة عن الدلالية.إنّ المتأمل في هذه الأبیات الشعرية یجد أنّ الشاعر یجنح دومًا إلی توظیف الفعل الماضي أکثر من المضارع محاولًا بذلك ترسیم المأساة الفلسطینية وتجسید المجازر البشعة والممارسات الإجرامية التي قام بها الکیان الصهیوني من بداية الاحتلال إلی الیوم الراهن،فلم و لن تنفعه هذه الجرائم شیئًا سوی القنوط واندلاع نیران المقاومة والنضال.إذا تأملنا القصیدة نجد أنّ الشاعر المقاوم قام بالمقارنة بین الماضي المجید والحاضر البائس وما یتّسم به من الرکود والتقهقر والرجعية،ومن ثم نلاحظ أنّ بنية النص تتجاذبها الجملة الفعلية الدالة علی الحرکية والدعوة والانعتاق من القیود.تدلّ کثرة الجمل الفعلية في النص علی تجدد الرغبة في إدانة هذه الظروف التعسة التي تجسّد هشاشة الفکر والتفریق بین أبناء فلسطین.ومن ثمّ لم یأت توظیف هذا النمط من الجملة بشکل عفوي واللاشعوري،بل دقیق ومحسوب،إذ وفّق الشاعر من خلاله تصویر الوظیفة الجمالية والدلالية عبر الجملة التي یتعامل الشاعر معها بوعي عالٍ ورؤية عمیقة وإحساس مرهف.

لا ریب أنّ لجوء الشاعر إلی توظیف الجملة الفعلية یدلّ علی رغبته في نقل مواقفه بصورة حیوية تمثّل الحرکية والتجدد محاولًا بذلك إضفاء نمط من أنماط الطابع الخطابي علی نص القصیدة بحیث یسهم في نقل المخاطب إلی فضاء القصیدة حتی یشاركه في تکوین الدلالات ومعایشة التجربة الوجدانية والروحية للشاعر.وهذا مما یجعل المتلقي یشعر ویحسّ بالواقع الذي عاش ویعیش فیها الشعب الفلسطیني المقهور.ترسم هذه الجمل الفعلية عبر شبکة النص الشعري أهمّ میزات إبداعية للبنية الترکیبية للنص المبدع حیث یتمیز بالنمطية والتواصل الثنائي عبر الارتباط النفسي والوجداني بین الشاعر والمخاطب أو السامع.انطلاقًا من هذا الموقف،یتضح أنّ التراکیب الفعلية تکتسب الکلام دلالات خاصة في السیاق الشعري،فنحن «إذا أخذنا القیمة المعنوية العامة للفعل،فإننا نجدها تنبعث من کونه کلمة یدخل فیها عنصر الزمن والحدث…لأنّ عنصر الزمن داخل في الفعل فهو ینبعث في الذهن عند النطق بالفعل.» (درویش،لاتا:151) کما استخدم الشاعر ضمن هذه القصیدة کثیرًا من الأفعال الماضية للتعبیر المباشر الذي یتمیز بالأسلوب التقریري وهذا ناجم عن طبیعة لغة الشاعر التي تتجه نحو المباشرة،فهو دومًا یحاول تصویر الواقع المعیش بکل تفاصیلها کأنها وقعت في الزمن الحاضر.إذن،فالشاعر أراد من خلال هذه التراکیب التعبیر عن مدی شعوره بتعقد الأمور وتدهور الظروف المعیشة ورغبته في تمثیل هذا الإحساس في إطار لغوي یسهم في توصیل المواقف والنظرات ودفع المخاطب نحو المشارکة في الأحداث والوقائع ومعایشة الهواجس التي تستحوذ علیه،وتمتلکه الثورة ضدّ الواقع المتردي.

من الواضح أنّ هذا المستوی الترکیبي ینسجم مع الترکیب العام للقصیدة وهذا مما یجعلها أکثر تأثیرًا علی المتلقي،إذ کرس الشاعر المقاوم جهودًا مضنية وقیمة في مجال انتقاء المستوی الترکیبي للقصیدة.یُظهر هذا النمط البیاني لنا مواقف الشاعر وأهمّ ملامح تفکیره ویبلور للمخاطب ما وراء الألفاظ والسیاق الشعري من معان ودلالات ینطوي علیها النص الشعري.

المستوی الدلالي

تعدّ الدراسة الدلالية من أهمّ التقنیات الحدیثة التي تسلط الأضواء علی دراسة النص دراسة وافية وتنمّ عن فحوی النص وتمهد السبیل للولوج إلی عالم النص المبدع.تمتع علم الدلالة بتعاریف مختلفة ولم یذکر علماء اللغة تعریفًا وافیًا ودقیقًا لهذا المصطلح،إلّا أنهم ذهبوا إلی أنَّ علم الدلالة «دراسة المعنی أو العلم الذي یدرس المعنی أو ذلك الفرع من علم اللغة الذي یتناول نظرية المعنی أو ذلك الفرع الذي یدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز حتی یکون قادرًا علی حمل المعنی.» (مختار عمر،1998م:11)

الحقول الدلالية

یراد بالحقل الدلالي مجموعة من المفردات والألفاظ التي یمتّ معناها بصلة وثیقة إلی مفهوم محدد داخل خارطة النص المبدع أو مجموعة من الوحدات المعجمية ترتبط تقابلها من المفاهیم تندرج کلها تحت مفهوم کلي یجمعها،أو هو کما عرفها “أولمان” قطاع متکامل من المادة اللغوية یعبر عن مجال معین من الخبرة. (نفسه:79)

إنّ المتأمل في هذه القصیدة المعنونة “ملحمة الصمود” یجد أنها تکتظ بفکرة الثبات والمثابرة والمقاومة من أجل البقا والحیاة والتعبیر عن الانتماء القومي والإسلامي ومحاولة الذبّ عن مسقط الرأس وأرض الآباء،فمن الطبیعي في النظرة الأولی للنصّ الشعري أن یجسد هذه الفکرة وما فیها من قیم سامية لثقافة المقاومة.

إذا أمعنا النظر في القصیدة نجد أنها في طیاتها تشتمل علی المفردات والألفاظ التي تمتّ بصلة وثیقة إلی حیاة الشعب الفلسطیني المقهور،لأنهم شاهدوا هذه الوقائع والأحداث المرّة أمام أعینهم،من هذه الألفاظ الدلالية (القصف،النار،الدمار،الحقد،المساجد،المدارس،الإغارة،الطائرات،الصواریخ،الغربان،تتار و…).نلاحظ أنّ هذه المفردات تعلب دورًا هامًا ومحوریًا في تجسید ما قاسی هذا الشعب المضطهد من مرارة التهجیر والتدمیر والتعسف.کما نشاهد عبر خارطة النص الشعري معجمًا یحتوي علی الموجودات (کالأرض،السماء،القدس،السنابل،الجحفل،اللیوث،السیل،الإعصار،الفسفور).ثمّ نجد عدة مفردات تمثل النعوت (النزف،الغیظ،اللهیب،الخدعة،اللجّة،الزاهرة،البهاء و…).من المعلوم أنّ هذه الصفات هي التي تصور القدس الشریفة لما فیها من مظاهر الحرمان والتعسف والغشم.تنمّ هذه المفردات في طیاتها عن مدی التوتر والأزمة التي یعیشها الشاعر حیث یدلّ اختیار هذه الألفاظ وتکثیف حضورها ضمن النص المبدع علی القلق الذاتي الذي یسوق الشاعر مساق البحث عن مفردة تناسب الفکرة تعبیرًا عن عواطفه وأحاسیسه وهذا مما یمنح المفردات سمة أسلوبية متمیزة تسهم في إیحاء المعنی.

إنّ الممعن في هذه القصیدة یجد أنّ الحقل الدلالي للألفاظ والمفردات تتعلق في معظمها بفکرة المقاومة والصبر علی الآلام والأوجاع حیث ظهرت في القصیدة واضحة جلية ومتناسبة مع العنوان والفکرة المرکزية للقصیدة.لا ریب أنّ توظیف هذه المفردات کان مدروسًا ومقصودًا من قبل الشاعر لتوصیل الفکرة والمواقف الشعرية والشعورية إلی المتلقّي لمساهمته في الفکر والمواقف وصولًا إلی خلق الوجدان المشترك.ومن ثمّ صارت القصیدة عاملًا هامًّا لتحریك السامع عاطفیًا واستثارته ذهنیًا للتفاعل مع القضایا الجارية في القدس المبارکة. هکذا نجد الشاعر یستثمر الطاقات الإبداعية والتعبیرية لتصویر أهمّ قضية إنسانية في العالم الإنساني وما یمنحها من طابع تأثیري للمتلقّي في إطار ملمح أسلوبي جدید.ذلك لأنّ التجدیدات اللغوية في الخطاب الشعري تصور المواقف الفکرية العریضة ضمن النص المبدع إثراء للدلالة وتکثیفًا للمعنی المراد حیث «تجذب الکلمة الجدیدة المتلقّي باعتبارها صورة قوية وتداعیًا غیر متوقع،وإنّها تؤثر في إحساسنا تأثیرًا أقوی من القوالب الشائعة.» (العبد،1988م:93)

نلاحظ عبر هذه القصیدة أنّ الشاعر اتکأ في معظم الأحیان علی حرکية الکلمة لما تنتجه من دلالات إیحائية في التعبیر عن المعنی الوجداني الذي خامر کیانه واعتصر نفسه حیث مهدت السبیل لامتلاء القصیدة بجوّ مشحون من الظلال الإیحائية والصور المعنوية. فالشاعر یحاول دومًا أن تنتقل دلالة القصیدة من جوّ معنوي إلی جوّ حسّي یعتمد علی الواقع وترسیم ما حلّ به من عواطف وظروف مأساوية تمثل تفکیره وملکته الإبداعية من جانب،وتمنح النصّ خلقًا وإبداعًا وحیوية لتخلق في کیان المتلقّي رؤية عمیقة من جانب آخر.

⇐ الجزء الأخير 5
اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى