نقد

مقاربة أسلوبية في قصیدة “ملحمة الصمود” لسمیر العمري (ج3)

⇒ الجزء الثاني

المستوی الإیقاعي

تعدّ البنية الموسیقیة من أهمّ جوانب التجربة الشعرية،إذ «تنساب أنغامها في وجدان الشاعر ألحانًا ذات دلالة،وتصقل موهبته النغمية وتوقظ لدیه التلوین الإیقاعي الذي یستخدمه وتخلق فیه الإحساس بجرس الکلمة ونبرة اللفظ وتطبع أذنه بطابع الانتقاء والاختیار.» (أنیس،1981م:34) حاول الشاعر الفلسطیني الحدیث تحویل الإنتاجات الأدبية إلی نغمات وترانیم تعبّر بصورة واضحة عن الثورة والنضال والغضب ضد العدو الشرس.إذن،فالحرکة الموسیقیة ضمن خارطة النص الشعري تنمّ عن تموج الذات الشاعرة والهدف الرئیس من عملية تکوین الموسیقی،فلیست الموسیقی سوی مشاعر الشاعر وأحاسیسه التي تعمل علی إیجاد شعور یتلاحم مع معنی النص الشعري.

الموسیقی الخارجية

تلعب الموسیقی الخارجية دورًا بارزًا ومحوریًا في صناعة موسیقی الشعر وهي التي یراد بها «موسیقی الشعر التقلیدية وحتی تلك الحدیثة المتمثلة في قصیدة التفعیلة التي کانت تعتمد علی جرس الموسیقی الخارجية وعلی توالي الوحدات الموسیقية أو النغمية،ویدخل في هذا الباب الأوزان العروضية التقلیدية وهي التي بقیت لمدة طویلة في إطار إیقاعي للشعر وما یرتبط بها من القوافي وزحافات.» (الغرفي،200م:67)

إنّ المتأمل في هذه القصیدة یجد أنّها تمّ إنشادها علی بحر الرمل لما فیه من تجاوب مع المتلقي لیجعل الشاعر رسالة واضحة مع الآخرین.مع أنّنا نعلم أنّ بحر الرمل العروضي من الأوزان الشعرية المألوفة التي سمّاها إبراهیم أنیس “الأوزان القومية”.(أنیس، 1981م:188) هذا الاختیار للوزن العروضي من قبل الشاعر یعدّ میزة أسلوبية بارزة في هذه القصیدة التي تعمّق الدلالة.

یقول الشاعر المقاوم في مستهلّ هذه القصیدة:

بكَ لا بغیرك للإباءِ یُشارُ

وبمثل کفّك تُکتبُ الأقدارُ

وعلی مدارك في انعتاقك للعُلا

تقفو الشموسُ وتتبعُ الأقمارُ

یا من بکی اللاهونَ نزفك دافقًا

فأبیتَ إلاّ أن یصونَ وقارُ
(العمري،2015م:148)

نلاحظ عبر هذه القصیدة أنّ بحر الرمل (فعلات فاعل فاعلات فعلن / فعلات فاعل فاعلاتن فعلن) یبعث تلك الحرکة التي تلائم مع فعالیات شعر المقاومة والنهضة وتضفي علیها ضربًا من ضروب القوة والانسجام والحیوية.لقد رمی الشاعر عبر هذا السطر الشعري إلی تکرار الحرف (الکاف) لیجانس بین هذا الحرف المتکرر وروّي القصیدة حرف الرّاء (وهي حرف انحباسي مجهور ذات الرنین الهادئ لما فیها من قدرة علی تحمل السکون والظهور)،وهذا مما یخلق في النفس نمطًا من التلاحم بین الشعر والمواقف النفسية،فضلًا عن تکوین الانسجام الإیقاعي والالتحام الصوتي حیث یحیط إیقاع الثورة والغضب بخارطة النص الشعري.حاول الشاعر هنا أن یزاوج بین حرفي الراء والکاف وهما حرفان مهموسان یشحّن النص الشعري بالقوة الإیقاعية التي تضفي علی النص سمة الجمال والتأثیر إیقاعًا زاخرًا بالدلالة مما جعل الشاعر یساهم المتلقي في خلق الوجدان المشترك وإشراکه في تحدید معالم النصّ وجعله یشعر بحالته المأساوية.فهذه التجربة الإیقاعية لدی الشاعر جعلته یستثمر کل طاقاته الإبداعية والدلالية والنغمية لتوصیل الرسالة إلی المتلقي.

الموسیقی الداخلية

تنبع الموسیقی الداخلية من التجربة الشعرية وهي التي تضفي علی شبکة النص الشعري سمة الجمال والعذوبة التي تتمیز بین أسلوب  الشاعر والآخرین وتجسد مقدرته اللغوية في اختیار الألفاظ وانتقائها.من أهم مظاهر الموسیقی الداخلية الجناس والتکرار اللذين یلعبان دورًا بارزًا في بلورة الموسیقی والدلالة.

الجناس

یعدّ الجناس من المحسنات البدیعية التي عمد الشعراء والکتاب إلی توظیفه ضمن کلامهم حیث یضفي علی المعطیات الأدبية نمطًا من الرونق والجمال خاصة عندما تمّ توظیفه في المکان اللائق به.

من نماذج الجناس في هذه القصیدة ما یلي:

قد أغلقوا سبلَ الفضاء وأطلقوا

حممَ القضاء وسیقت الأعذارُ (نفسه:148)

وطغوا فما بشرٌ ولا حجرٌ نجا

منهم ولا شجرٌ ولا أطیارُ (نفسه:149)

ووقفتَ أنتَ وفي فؤادك غَزَّةٌ

وعلی جبینكَ عِزّةٌ وفخارُ (نفسه:150)

والحقدُ مِقصلةُ الضمیر فإن طغی

قَدَّ الرشادَ وقدَّسَ زئیرُ

ووقفتَ أنتَ وفي فؤادك غَزّةُ

وعلی جبینك عِزّةٌ وفخارُ (نفسه: 154)

 

 

 

 

 

نلاحظ أنّ الشاعر یجانس بین الألفاط (الفضاء والقضاء، بشرٌ وحجرٌ، وغَزّة وعِزّة مرتین، قدَّ وقدَّسَ)،وذلك لما في الجناس من وقع علی ذات المتلقي أو السامع حیث نجد الشاعر یلتجأ إلی توظیف هذه التقنية لتأکید الدلالة وزیادة الحسّ الإیقاعي للقصیدة ویحاول عبر الجناس أن یضفي علی نص القصیدة القیمة الصوتية کما نراه یحرص علی القیمة الدلالية والبلاغية للألفاظ عبر النص الإبداعي.نری عبر القصیدة أنّ حرکة الإیقاع المفعمة بالنضال والثورة تطغی علی النص المبدع مما یجعل الجانب المأساوي للنص طاغیًا.فالنص یتمتع بالحرکة والدینامیکية والنشاط وهذا مما یخلق نمطًا من الموسیقی التي تحدث تأثیرًا نفسیًا مشابهًا للأوزان العروضية وبنية الإیقاع في کیان المتلقّي.

هذا الموضع مما یعکس الحالة المأساوية والثورية المحیطة بالشاعر والتي یخلق شوقًا جارفاً للانتصار والرجاء وینمّ عن مقدرة رصیده اللغوي وثراء زاده المعجمي مما یمنحه فرصة مؤاتية لانتقاء الألفاظ المناسبة للمقام الذي یجد فیه نصیبًا من العناء والألم.

التکرار

تعدّ تقنية التکرار من التقنیات المؤثرة في تشکیل الإیقاع الداخلي وقد ذهب معظم النقاد البلاغیین إلی أنّ التکرار إنّما یؤتی به للتوکید وهو«أن یکرر المتکلم اللفظة الواحدة لتأکید الوصف،أو المدح أو الذمّ أو التهویل أو الوعید.» (یوسف،1989م:154)

لقد عمد الشاعر الفلسطیني الحدیث إلی توظیف هذه التقنية لترسیخ المواقف الذاتية والتجربة الشعرية والشعورية في کیان المتلقي،فمن ثمّ اتخذ التکرار أداة طیعة ومطواعًا لتوصیل فکرة المقاومة والصمود،ومن ثمّ تسهم أعظم إسهام في بناء القصیدة الفلسطینية دلالیًا وإیقاعیًا وتکوین السمات الأسلوبية لها.إذن، لا یتسع لنا المجال لمعالجة کافة أنماط التکرار من تکرار الکلمة والعبارة والجملة والضمیر والمقطع و… في هذه العجالة،ومن ثمّ نتناول أهمّها وأبرزها ضمن هذه القصیدة بصورة عابرة وموجزة،لأنّ هذا الموضوع یستحقّ دراسة کاملة ووافية تکشف عن حقیقة التکرار ودوره الدلالي في التعبیر عن المراد.

من نماذج التکرار ما ورد في هذه القصیدة:

جاءوك من برٍّ ومن بحرٍ ومن

جوٍّ کما الغربانُ فوقك طاروا
(العمري،2015م:149)

وأبیتَ أن یطأ العرینَ من افتری

إنَّ اللیوثَ علی العرین تَغارُ

ورأیتَ لا سیفًا یذبُّ ولا خطی

تسعی ولا قومًا لنصرك ثاروا

بأنَّ جذرك في ترابك راسخُ

لا السیلُ یقلعُه ولا الإعصارُ
(نفسه:151)

لو أبصرت عین الحروب لَفُزّعت

ولهانَ في عین الهلاك تَتارُ

یا مَن بکی اللاهون نزفك دافقًا

فأبیتَ إلا أن یصونَ وقارُ

یا مَن سقانا العزَّ کأسَ کرامةٍ

من بعد أن ظمئت بنا الأعمارُ
(نفسه:150)

 

 

یجد المتأمل في هذه الأسطر الشعرية أنّ الشاعر عمد إلی تقنية التکرار لبعض الألفاظ (مِن الجارّة ثلاث مرات، العرین مرتینِ، لا النافية خمس مرات،الجملة الفعلية “جعلت” مرتین، “یا من” مرتین) التي یتقصّدها الشاعر المبدع حیث فرضتها طبیعة التجربة الشعرية ومن هنا کان لوجودها أهمية قصوی في النهوض بالإیقاع تعبیرًا عن التجریب والتجدید.من المعلوم خلال المقطوعة أنّ الشاعر استطاع عبر عملية التکرار التعبیر عن همومه النفسية والهواجس المکنونة التي اعتصرت نفسه إثر قضية الاحتلال وما یعقبها من قتل وتشرید واعتداء علی الحقوق وإراقة الدماء.تدلّ هذه الصیغ التقنية التعبیرية علی الحرکة والنموّ والانطلاق والتوثب بحیث تشکّل بناء درامیًّا ساهم في التعبیر عن الحالة النفسية التي یعیشها الشاعر.فالقصیدة بشکل عامّ تکشف عن خیبة الشاعر وآلامه الموزعة بین حالتي السخط والضیاع ویجسّد علی نحو بارع الشعور بالانکسار المنطوي علی الأمل.یظهر لنا من خلال الأسطر الشعرية أنّ الشاعر یصرخ بقوة وبکل کیانه تجاه ما حلّ بغزّةَ من قتل وحرب واعتداء وطغیان ویصوّر تلك المجازر التي اقترفها الکیان الصهیوني وحلفاؤه في غزّة علی مرأی العالم وهذا الأمر مما یعمق آلامه وصرخاته التي یرددها لیسمع الناس في أنحاء العالم عبر إیقاعات موسیقية متوالية،وبناءات لغوية تتراوح بین الکلمة والعبارة مما جعلته یلجأ إلی أنماط أسلوبية ولغوية متنوعة تؤدّي إلی تجسید آلامه وأحزانه وکل ما یدور في کیانه من حیرة واضطراب وهموم نفسية لیخلق من خلالها «شعورًا بالتسارع والاستمرارية ویؤکّد إرادة التحدي للشعب الفلسطیني المقاوم.» (باقري وآخرون،1395ﻫ: 106) جاء هذا التکرار حاملًا في تضاعیفه أبعادًا إیحائية وإنسانية تتلاحم مع الموقف الذي یعیشه الشاعر وهو الشعور بالانتصار وقهر الأعداء،ومن ثمّ نری أنّ التکرار یمکّن وعیه من تفجیر الطاقات الکامنة في هذه التقنية واقتناص ما وراءها من دلالات مثیرة لإثارة المتلقّي وتوجیه ذهنه نحو الصورة المستحضرة لخلق التوافق الشعوري بین الشاعر المبدع والمتلقّي.

⇐ الجزء الرابع
اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى