تأثيل الحالة الإبداعية
لم يتوقف الإنسان منذ بداية التاريخ عن محاولات التطور والترقي سعيا لتلبية احتياجاته المادية والمعنوية ولتوفير بيئة حضارية أفضل من خلال النهوض إلى مستوى الإبداع بمختلف اتجاهاته والبحث عن وسائل مناسبة لتنسيق الإمكانيات المتوفرة وتحقيق الغايات المنشودة. وعليه فإن الإبداع هو حالة إنسانية وحاجة ملحة فرضها الواقع وصولا إلى ما نرى من رقي حضاري فكرا وأدبا وعلما.
والإبداع بما يفرضه المعنى اللغوي والاصطلاحي يقود الوعي إلى إدراك المفهوم الحقيقي الذي تقوم عليه الحالة الإبداعية من حيث الابتكار على غير مثال من جهة والإتقان والمهارة التي يحتاجها من جهة أخرى. وإن الإبداع لا يقوم بدون توفر أحد هذين المرتكزين ويزداد مستوى الحالة الإبداعية طرديا بتعاضد المرتكزين وبزيادة مستوى كل منهما. ويستلزم الإبداع وجود حالة من الوعي الكامل والإدراك التام بمكنونات التجربة وتفاصيل الفكرة وتركها لتختمر في الذهن قبل أن تبلور في نص أدبي أو تأطير فكري أو تطبيق علمي عملي. وهذا يرد على قول المتحذلقين بأن الإبداع حالة من اللاوعي ومن الفوضى العارمة ذلك أن إشكالية خلط المفاهيم وحالة التهويم لا يمكن لها أن تنجز منتجا إبداعيا يحقق المأمول ويسهم في الرقي الحضاري الإنساني.
“الحالة الإبداعية هي حالة إنسانية متعلقة بالخيال وبالوجدان ويكون للضمير دور المحرك الفاعل والعقل هو البوصلة الموجهة نحو المقاصد العليا واختيار مواضع الضوء والظل في العملية الإبداعية” د. سمير العمري
ورغم أثرهم المحوري في مسيرة الحياة الإنسانية واعتبارهم أساس الحضارة والرقي إلا أن المبدعين قلة نادرة تحتاج إلى توفير بيئة حاضنة باعتبار أهمية دورهم في بناء هذه الحضارة وازدهارها المستمر، ويجب أن تبدأ هذه الحضانة منذ بدء تفتق بتلات الموهبة ومن ثم رعايتها وتطويرها وصولا للنضج والقطاف. والموهبة هي بذرة الإبداع وبدونها لا يمكن له أن ينمو أو يكون، ويمكن تطويرها وتنميتها بالصقل والتوجيه من جهة وبإثراء الحالة المعرفية والتحصيل الثقافي وتوظيف هذا كله في الوصول لحالة الترقي الإبداعي وصهر الطاقة المهارية الكامنة والقدرة المعفية المكتسبة في بوتقة التفرد في الأداء والتميز في التأطير والتطوير.
ولأن الحالة الإبداعية هي حالة إنسانية فريدة ونادرة فإن الأداء الإبداعي يستدعي وجود حالة من الانفعال الذاتي بعيدا عن الافتعال القهري وقد يدفع هذا المبدع إلى حالة من الانطواء المرحلي والميل للعزلة في خضم مخاض المنتج الإبداعي وبما قد يشكل مزاج اكتئابي وحركة داخلية قلقة تنزاح عند المبدع الحقيقي بمجرد ولادة المنتج فيعود فاعلا ومتفاعلا، ولكنه قد يستمر سجية في عدد غير قليل ممن اعتنقوا العملية الإبداعية في أطرها الظاهرة فينعزل كبرا في برج عاجي لا يلبث أن يطويه ويقضي عليه.
وختاما فإن الحالة الإبداعية هي حالة إنسانية متعلقة بالخيال وبالوجدان ويكون للضمير دور المحرك الفاعل والعقل هو البوصلة الموجهة نحو المقاصد العليا واختيار مواضع الضوء والظل في العملية الإبداعية، وهذا أمر يستلزم الوعي بوجود تلك البذرة حقا لا وهما، والعمل على الصقل والتمكن من الأدوات، وتطوير مهارات التفكير والتأطير والاتكاء على ما تم إنجازه في المسيرة الإنسانية الممتدة كحصيلة تجارب ومن ثم محاولة الإثراء بالطرح الإبداعي الذاتي اتساقا وانسياقا في ذات الإطار ومن خلال عملية متواصلة من التأثر والتأثير.