أدبنقد

قراءة جمالية في قصيدة (صلاة شوق) للشاعر د. سمير العمري

الجزء الثاني

قصيدة صلاة شوق

بَشَّرْتُ يَعْقُوبَ الْحَنِينِ وَسِرْتُ فِي=دَرْبِ الْأَنِينِ لِيُوسُفِ الْمَعْنَى

نقرأ الصورة الفنية جماليا في هذا البيت من بنائه الفني في مستويات المعنى و البلاغة والبيان:
بلاغيا ومعنويا : ” يعقوب الحنين” كناية عن نسبة ؛ فالشاعر ينسب لنفسه الصبر على الفراق والرجاء باللقاء. وكنى عن ذلك بذكر “يعقوب الذي عرف عنه الحنين لولده مع الصبر الجميل والرجاء بلقائه ” . والشاعر إذ يبشر “يعقوب” إنما يبشر نفسه في ذلك الجانب الذي يتمثل فيه حنين يعقوب .
على أن الشاعر قد عاكس ما بشر به آنفا بسلوكه اتجاها يبعده عن تحقيق البشارة ؛ إذ أعقب البشارة بسيره في درب الأنين ليوسف المعنى . ودرب الأنين هو اختيار الابتعاد وما يلزمه من المشقة أو العذاب . وفي القصة القرآنية التي تطل بنوع من التناص المعنوي، تعيدنا عبارة ” درب الأنين ليوسف المعنى “إلى ذلك الدرب الذي كان مقدرا ليوسف النبي – عليه السلام – أن يسلكه. ولم يغن عن سيره فيه أن بشارته كان مكتوبا لها أن تتحقق يوما .
ونلاحظ أن الشاعر قد وظف رمزه ” يوسف ” توظيفا مزدوجا في آن واحد ؛ فهو يوسف الذي سلك درب الأنين من جهة فراقه أبيه يعقوب ، وهو ” يوسف المعنى ” من جهة جماله.
و”يوسف المعنى” كناية أخرى عن الجمال . ولكنه على أية حال جمال معنوي يتحقق بالسير عكسا .
ومن الواضح أن التوظيف المزدوج للرمز لم يسء إلى وضوح المعنى ، وإنما زاده تعميقا وتفريعا . فالرمز المعروف تماما عند المتلقي لا يشتت ذهنه في البحث عن المغزى المراد، بل يزيده اطمئنانا إلى أنه قد بلغ المعنى المطلوب .
بيانيا : يستخدم الشاعر كعادته ألفاظ الجناس والطباق المتعددة ليشكل مقابلة بيانية ترصع بيته بأجراس متناغمة على تضادها وتجانسها متجاوبة ما بين الصدر والعجز . وما بين المعنى وعكسه.
وهذا من أسرار الصنعة التي وصلت عند الأستاذ د. سمير العمري مرحلة من الصقل والتطور أصبحت فيها طبيعة عفوية لا تشعر القارئ لا بالتكلف ولا بالاجتلاب. بل على العكس تماما فإن القارئ يشعر بضرورة تلك الألفاظ بحد ذاتها بحيث أن سواها لا يملأ فراغ حذفها أو استبدالها.
وفي هذا البيت
بَشَّرْتُ يَعْقُوبَ الْحَنِينِ وَسِرْتُ فِي=دَرْبِ الْأَنِينِ لِيُوسُفِ الْمَعْنَى
الفعل “بشرت ” ضده في المعنى “سرت في درب الأنين “. فهذا طباق معنوي.
مع تجاوب سجعي متبادل بين أجراس الجناس الناقص بين (بشرت وسرت) و( الحنين والأنين) .
أما تركيبا “يعقوب الحنين “و”يوسف المعنى” فالتجاوب بينهما بلاغي ومعنوي . ويتم عبر التناغم المعنوي الذي يحدثه وقع الاسمين يعقوب ثم يليه يوسف كل بما يخصه.
والخلاصة : تشكيل فني جميل ذو مداخل متعددة هيمنت عليه العاطفة المترددة ما بين انفعالات عميقة ومتقلبة فزادته تألقا شعريا حيويا .

لَا جُبَّ يدَّلِجُ الرَّجَاءَ وَلَا صَدَى=يُنْجِي النِّدَاءَ وَلَا جَوًى يُجْنَى

استكمالا لمستلزمات الرمز ” يوسف” في قصته القرآنية يبحث الشاعر عن ” الجب ” كي يدلج الرجاء منه. أي كي يملأ الدلو مما هو كائن في الجب. وليس في الجب إلا يوسف ورجاؤه بالخروج من المحنة . غير أن الجب نفسه غائب هنا . “فلا جب يدلج الرجاء ” وإذن فإن النداء سيبقى ضعيفا دون صدى يردده ويضخمه. وهكذا لن ينجو النداء من الاضمحلال والتلاشي حيث لا استجابة من تلك المرأة تتحول إلى “جوى ” يجنيه الشاعر .
مشاعر الخيبة واليأس تتردد وتتكرر في البيت مع تقسيمه البياني : لا جب يدلج الرجاء / ولا صدى ينجي النداء / ولا جوى يجنى .
هذا التكرار الذي يطال التركيب اللغوي و يطال المعنى نفسه هو التناسب الذي قال عنه أفلاطون إنه يمثل مع ” الوزن ” عنصري الجمال.

ضَاقَتْ عَلَيْكِ الْأَرْضُ مِنْ هَرَفِ الْوَرَى=فَسَمَوْتِ يَا فَلَكِيَّةَ السكنى

جاء في (لسان العرب) في مادة هرف :
“هرف : الهرف : مجاوزة القدر في الثناء والمدح والإطناب في ذلك حتى كأنه يهدر ……
وفي التهذيب : الهرف شبه الهذيان من الإعجاب بالشيء . يقال : هو يهرف بفلان نهاره كله هرفا . ”
يقول الشاعر : ضَاقَتْ عَلَيْكِ الْأَرْضُ مِنْ هَرَفِ الْوَرَى ؛ الأرض تضيق عليها من هذيان الناس حولها ولغوهم. ولا تجد لنفسها مكانا بين الذي يهرفون تطمئن إليه وتسكن . فتسمو عن ذلك بانسحابها من الأرض إلى أفلاك السماء تتخذها سكنا .
لا أحسب أن شاعرا قد طرق هذا المعنى من قبل في تصوير دواخل شخصية امرأة .
فنجد التفاتا عن المعهود العام في تقييم الرجل للمرأة . والمعهود أن المرأة تحب الثرثرة . وهذه نكتة الرجل عن المرأة .

فِي سَفْحِ قَلْبِكِ جَنَّةٌ مِنْ نَرْجِسٍ=وَعَلَى لِسَانِكِ عَنْدَلٌ غَنَّى

السفح من أقسام الجبل. وإذا كان القلب جبلا فالتربع على قمته أو على عرشه يقتضي الصعود إليه صعودا. غير أن هذا الصعود سيبدأ من السفح بالمرور بجنة النرجس . والنرجس كما هو معلوم رمز لعشق النفس .فيكون المعنى أن من يرغب بالوصول إلى مبتغاه من قلبك فعليه أن يصعد صعودا وعليه أن يتجاوز اعتزازك أو( اغترارك) بنفسك .فأنت امرأة تغلو في شأن نفسها حد عشق النفس. غير أن هذا الاغترار النرجسي جنة من الجنان.ولن يكون المرور بالجنة أمرا مزعجا . فالشاعر لا يستنكر ذلك الاعتزاز بالنفس إنما يباركه بوصفه ” جنة من نرجس ” .وأيضا ،لم أر شاعرا بارك (الغرور) الأنثوي الغريزي ولفت النظر إلى جماله إلا الآن.

فِي سَفْحِ قَلْبِكِ جَنَّةٌ مِنْ نَرْجِسٍ=وَعَلَى لِسَانِكِ عَنْدَلٌ غَنَّى

أما عن ” العندل” فقد جاء في (المعجم الوسيط): ”
العَنْدَل طائر صغير الجثة، سريع الحركة، كثير الألحان، يسكن البساتين، ويظهر في أيام الرَّبيع. ( ج ) عَنادِل. ”
وفي ( لسان العرب ) جاء في أصل كلمة ” العندليب ” العَنْدَلِيب طائر أَصغر من العصفور قال ابن الأَعرابي هو البُلْبُل وقال الجوهري هو الهَزَار و قال لأَزهري وجعَلْتُه رُباعيًّا لأَن أَصله العَنْدَل ثم مُدَّ بياء وكُسِعت بلام مكررة ثم قُلِبت باء وأَنشد لبعض شعراء غَنِيّ والعَنْدَلِيلُ إِذا زَقَا في جَنَّةٍ خيْرٌ وأَحْسَنُ من زُقاءِ الدُّخَّل والجمع العَنَادِل قال الجوهري وهو محذوف منه لأَن كل اسم جاوز أَربعة أَحرف ولم يكن الرابع من حروف المد واللين فإِنه يُرَدُّ إِلى الرُّباعي
. فالعندل هو الأصل الرباعي لكلمة العندليب من كما هو من أسماء البلبل.
وثمة معنى آخر للفظة “العندل” جاء في المعاجم و هو ” البعير ضخم الرأس ” . فاختيار كلمة ” عندل ” قد يثير جدلا حول معناها . فلماذا لم يختر الشاعر لفظة ” بلبل ” لتحل محل ” عندل ” وهي على الوزن نفسه وبالمعنى نفسه ؟
أقدم جوابي عن هذا السؤال جماليا بتحليل البنية الصوتية أو الجرس الذي يحدثه لفظ ” عندل ” وهو في مكانه بين كلمتين كل منهما تنضوي على حرف النون (لسانك وغنى ).

فِي سَفْحِ قَلْبِكِ جَنَّةٌ مِنْ نَرْجِسٍ=وَعَلَى لِسَانِكِ عَنْدَلٌ غَنَّى
فالانسجام الصوتي بين الكلمات المتوالية harmony أو ما يسمى بالموسيقا الداخلية يتحقق مع كلمة تضم ثلاثة حروف متجانسة المخارج (بينية متوسطة الشدة )هي العين والنون واللام .أكثر من كلمة تضم حرف الباء ذي الوقع الانفجاري مكررا مرتين في كلمة ” بلبل” .
ولنلاحظ كيف نلفظ “وعلى لسانك عندل غنى “بانسجام وانسيابية تختلف عن لفظنا ” وعلى لسانك بلبل غنى ” الذي يشق فيه علينا بعد انسيابية لفظ ” لسانك “تكرار ضغط نطق الباء الانفجارية (الباء من الحروف الشديدة ) مرتين متقاربتين زمنيا في كلمة واحدة ” بلبل” . ثم ليحدث انزلاق مفاجئ مع نطق حرف رخو (الغين )وحرف بيني متوسط الشدة (النون )في ” غنى” فالشاعر يحتاط لهذا التفاوت الصوتي في الأجراس احتياطا ذا أهمية كبيرة في العجز كونه يصور صوت تلك المرأة ويشبهه بصوت العندليب. فاختيار الألفاظ الذي يحقق هذا الغرض بطريقة مثلى مطلب فني مهم وفي وقته المناسب.

وَلِحُرِّ رَأْيِكِ هَامَةٌ وَلِبَدْرِ رُو=حِكِ هَالَةٌ قَدْ ضَمَّتِ الْكَوْنَا

حسن تقسيم على مستويين :
1- مستوى الجمل والتراكيب :( وَلِحُرِّ رَأْيِكِ هَامَةٌ )/ (وَلِبَدْرِ رُوحِكِ هَالَة)
2-مستوى الألفاظ (وَلِحُرِّ / وَلِبَدْرِ) (رَأْيِكِ / رُوحِكِ) (هَامَةٌ / هَالَةٌ) .
يضر حسن التقسيم بالمعنى إذا كان متكلفا . لكننا نستقصي ذلك في مطابقة المفردات مع المعاني المطلوبة منها. فنكتشف التناسب المعنوي مقسما على قدر التوازن الصرفي.
التحليل المعنوي لجملة ( وَلِحُرِّ رَأْيِكِ هَامَةٌ ) :
الرأي تناسبه الحرية كصفة .ويناسبه ( الهامة /الرأس) كمنبع و مصدر.
والمعنى :أن لتلك المرأة رأيا حرا لا تتبع به أحدا على سبيل التقليد أو المداهنة ، بل هو من نابع من رأسها. ويمكن في معنى ( وَلِحُرِّ رَأْيِكِ هَامَةٌ ) القول: إنها تترأس برأيها.وذلك باعتبار الرأس مكانة يبلغها الرأي الحر .
والصياغة مباشرة .انحازت نحو قوة المعنى عن التصوير الفني الشاعري .
أما جملة (وَلِبَدْرِ رُوحِكِ هَالَة قَدْ ضَمَّتِ الْكَوْنَا ) : فقد محا فيها الشاعر ما كان من أثر حدة المباشرة برسم اللوحة الفنية بدرا تحيط به هالة من ألوان الضوء تتسع وتتسع حتى تضم الكون كاملا .ثم أوعز أن البدر هنا هو روح تلك المرأة . فرفع بهذه الصورة الشعرية الرائعة مستوى الشاعرية في البيت وأعاده إلى نصابه.

خَفَرَتْ مَهَابَتُكِ الشَّغَافَ فَلَمْ تَزَلْ=تُقْصِي اللَّطَافَةَ كُلَّمَا أَدْنَى

لتلك المرأة مهابة يشعر بها الشاعر شعورا عميقا. بحيث أنها وصلت إلى حد خفرت فيه شغاف قلبه . وخفرت هنا بمعنى (حرست وراقبت )مستعيرا الشاعر المعنى من عمل الخفر أو الشرطة إذ يحرسون ويراقبون.
فالمهابة وقفت على شغاف القلب رقيبا (خارج القلب) تمنع القلب من إظهار اللطافة وإدنائها. بمعنى أنها تمنعه من التقرب أوالتودد إليها.فكلما أدنى إليها شيئا من اللطافة أقصته وأبعدته مهابتها.
فهذا صراع نفسي بين الرغبة في التودد وعدم الاجتراء عليه. جسده الشاعر جماليا بتعبير اتسم بالحيوية. والحيوية – في رأيي- أقوى عناصر الجمال تأثيرا في المتلقي.ﻷن مفهوم الجميل نفسه يلتقي مع مفهوم الحيوي من حيث القدرة على إحداث الأثر التفاعلي المتبادل.
ولنحلل الآن هذه الصياغة اللغوية على مستوى الدلالة ،لنرى مرتكزاتها التعبيرية التي أحدثت فينا الدهشة الجمالية المطلوبة. وبماذا تمثل عنصر الحيوية الجمالية؟
الفعل( خفر )فعل تفاعلي يتضمن زمنا ممتدا لتحقيق معناه : حرس وحمى وراقب وأمن: والدلالة المعنوية تتضمن التردد بين التوجس والحراسة . فالتردد” الحركة التفاعلية ” داخل في الدلالة .
الحارس الفاعل (مهابتك) : والمهابة ليست هي الخوف المكروه و المرفوض.بل هي حالة وسطى تتردد بين التعظيم والخشية.وهذا التردد القلق يضيف الحركة التفاعلية .
المفعول به ” الشغاف” رقيق ضعيف ويحاول تقريب اللطافة لكنه ما زال يتعرض للخفر وللمنع بإقصاء ما ييدنيه. و التفاعل الحركي المتردد بين الإدناء والإقصاء واضح.
والتفاعل الحركي هو السر الدلالي الذي كان عاملا مشتركا بين الألفاظ التي شكلت الصورة الشعرية لغويا. هو الذي جسد عنصر الحيوية جماليا فيها. وليس ثم أمثل من هذا!

الجزء الأول ⇒

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى