أدبد. سمير العمريقصة

جاندا

انْطَلقَتْ تُسابِقُ الرِّيحَ لا تلوِي عَلَى شَيءٍ، يَلهَثُ خَلفَها ذُعرُهَا المَكلومُ بِوجَعِ عَجْزٍ. كَانَ النُّعَاسُ قَد بَدَأَ يُداعبُ عَينَيِ النَّهارِ حِينَ أَرهَقَتْهَا أَنْفَاسُهَا وَخَانَتهَا أَطْرافُهَا فَأَسنَدَتْ جَسَدَها لِجِذْعِ شَجَرَةٍ عَجْوزٍ تَلعَقُ جِراحَهَا النَّازِفَةَ فِي صَمتٍ وَوُجُومٍ، وَتُهَدْهِدُ صَدْرَها المُتَهدِّجِ لِيَستَكِينَ. وَفجْأَةً؛ دَوَّتْ زَأْرَةُ مَخَاضٍ مُبَكِّرٍ لِبِكْرٍ تَضَعُ ذَكَرَين.

لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ بَاجِيرَا وَهيَ تَجتَهدُ في تَطوِيرِ قُدُرَاتِها في الرَّصْدِ وَالصَّيدِ وَتَتَرَقَّى بِثِقةٍ لأَعلَى التَّرْتِيبِ الهَرَمِي لِلجَمَاعةِ أَنَّ فِضِّيةَ العَينِ سَتُناصِبُها العَدَاءَ وَستَترَصَّدُهَا في كُلِّ مَرَّةٍ تُظْهِرُ فِيهَا بَرَاعتَهَا أو تُلْفِتُ إِلَيهَا نَظَرَ الأَسَدِ المُسَيطِرِ. جُنَّ جُنُونُ فِضِّيةِ العَينِ وَهيَ تَرَى بَاجِيرَا تَضَعُ مِنَ الأَسَدِ مَولُودَين فَانْقَضَّت عَلَيهَا حَتَّى قَتَلَتهَا وَالشِّبْلَ الذَكَرَ قَبلَ أَنْ يعُودَ الأَسَدُ فَتُقْعِي قَدَرًا لِنَجَاةِ المَولُودَةِ الأُنْثَى التِي احتَضَنتهَا لَبؤَةٌ أُخْرَى.

كَبُرَتْ جَانْدَا عَلى مَا كَانَتْ عَليهِ أُمُّهَا مِن حُبِّ التَّميُّزِ وَرَغبَةٍ في التَّفوُّقِ فَاصْطَدمَتْ مِثْلهَا بِاللبُؤةِ المُسَيطِرَةِ فِضِّيةِ العَينِ، وَكَانتْ تَشعُرُ دَومًا بِالمَقتِ يَنْضَحُ مِنْهَا وَبِالغَدْرِ يَلُوحُ مِنْ عَينِهَا فَكَانَتْ تَتَحَاشَى أَبَدًا أَنْ تَمْنَحَها فُرصَةً لِلانقِضَاضِ عَلَيهَا وَلَمَّا تَكتَمِلْ قُوَّتُهَا وَتُصقُلْ قُدُرَاتِهَا. وَمَضَى الزَّمنُ وَئيدًا يَأخُذُ بِالسِّنينِ مِنْ فِضِّيةِ العَينِ الرَّهِيبَةِ وَيَمنَحُ جَانْدَا قُوَّةً وَخِبرَةً جَعَلتهَا فِي مُنَافَسْةٍ مَعَهَا عَلَى دَورِ اللبُؤَةِ المُسَيطِرَةِ فَلَمْ تَعُدْ تَحْذَرُ مِنهَا.

أَدْرَكتْ جَانْدَا حِينَ جَفَّ ضَرْعُهَا وَجَاعَ صَغيراهَا أنَّ عَليهَا أنْ تَبحثَ عَن طَعامٍ، فَنَقلتْ شِبلَيهَا إِلى مَأْمَنٍ فِي دَغلٍ قَريبٍ ثُمَّ جَاهَدتْ رَهَقَها بَحثًا عنْ طَرِيدةٍ تَستَطِيعُ أنْ تَصِيدَها وَلَمْ يكُنِ الأَمْرُ يَسيرًا لَكِنَّهَا عَادَتْ وَهيَ تَلعقُ بَقِيَّةَ دَمِ ظَبيٍ صَغِيرٍ. شَلَّتها الفَجِيعَةُ حِينَ وَلجتْ فَلمْ تَجِدْ شِبليهَا حَيثُ تَرَكَتهُما، وَمَا إِنْ ابتَلعَتِ الصَّدمةُ حتَّى انطَلَقتْ تَبحًثُ بِلَهْفَةٍ لِتَجِدَ عِصَابَةً مِن الضِّباعِ خَلفَ الدَّغْلِ تَنْهَشُ جَسَدَ شِبلِها حَيًّا وَهوَ يَصِيحُ بِأَلمٍ فَانْطَلقَتْ كالسَّهمِ تُخَلِّصهُ مِن بَينِ أَنيابِهَا ثُمَّ تُطَاردُها بِضَراوةٍ حَتَّى أبعَدَتهَا.
حَاوَلَتْ جَانْدَا أنْ تَحمِلَ الشِّبلَ بَعيدًا عنِ الخَطَرِ فَأوهَاهَا بِصُرَاخِهِ. لَعَقتْهُ بِحَنانٍ تَستَحِثُّهُ لِيمْشِيَ فَاكتَشَفَتْ أَنَّهُ مَكْسُورُ الظَّهْرِ مُمَزَّقُ الأحشَاءِ مَيِّتٌ لا مَحَالَة. رَفَعتْ رَأْسَهَا وَأَغْمَضَتْ عَينَيهَا بَعضَ وَقْتٍ تُغالبُ دُموعَهَا ثُمَّ أَطْلقَتْ صَيحَةَ أَلَمٍ هَزَّتِ الأَرْجَاءَ. عَادَت تنظُرُ إلى وَليدِها نَظرةً أخِيرةً وَمَضَتْ تُجَاهِدُ أَقدَامَهَا التِي تَرْتَعِشُ كُلَّمَا نَاجَاهَا شِبلُها الزَّاحِفُ خَلفَهَا حَتَّى إِذَا مَا أَوجَعَهَا النِّدَاءُ أَطْلَقَتْ سُوقَهَا لِلرِّيحِ تَفرُّ مِن إِحْساسِ الأُمُومةِ المَكْلومِ إِلى نَامُوسِ الطَّبيعَةِ المَحْتُومِ.

وَقَفَتْ جَانْدَا علَى تِلكَ التَّلةِ المُشْرِفةِ تَسترجِعُ مَا دارَ لهَا في أَقصَى الوَادِي هُناكَ حَيثُ غَافَلتهَا فِضِّيةُ العَينِ وَهَاجَمَتهَا فَأحدَثتْ فِيهَا جِراحًا اضطرَّتهَا للهَربِ بعِيدًا. مَضَى وَقتُ طَويلٌ وَهيَ تَعِيشُ وَحيدَةً تَجُوبُ الأَدغَالَ فَصَقلَتِ المُمَارسَةُ قُدُراتِهَا وَهَذَّبتِ المُثابَرةُ خِبرَاتِهَا حتَّى بَاتتْ قَادرَةً عَلى صَيدِ الفَرَائِسِ الكَبيرَةِ مِمَّا يَعجَزُ عَنهَا جَمعٌ مِنَ الأُسُودِ. لَقَد قَرَّرتْ أنْ تَعُودَ وَلنْ يُثنِيَهَا عنِ العَودَةِ بَعدَ كُلِّ هذَا الغِيَابِ شَيءٌ.
كَانتْ الشَّمسُ تُطِلُّ عَلَى استِحيَاءٍ مِن خَلفِ الأَكَمةِ تُرَاقِبُ جَانْدَا تَسيرُ بِخُطَى وَاثقَةٍ عَبرَ السَّفحِ نَحوَ وَادِي الأُسُودِ، تُجِيلُ عَينَيهَا في الأُفُقِ المُمتَدِّ بَحثًا عنْ جَمَاعتِهَا التِي طُرِدَتْ مِنهَا. لَمْ يَطُلِ الأَمَدُ حتَّى أَطَلَّتْ فِضِّيةُ العَينِ بِرَأسِهَا وَأَقْبلَتْ تُهَروِلُ مُستَفَزَّةً وَقَد عَرفَتهَا. وَقَفتْ في ثَبَاتِ القَوِيِّ تُؤَكِّدُ أَنَّها مَا عَادتْ لِسُوءٍ، وَلكِنَّ فِضِّيةَ العَينِ بَادَرَتهَا بِهُجُومٍ تَصَدَّتْ لهُ بِقُوَّةٍ حَتَّى طَرَحَتهَا أَرضًا وَنَظَرَت فِي عَينِهَا بِتَحَدٍّ وَإصْرَارٍ. أَدْرَكتْ فِضِّيةُ العَينِ أنَّ جَانْدَا لمْ تَعُدْ تِلكَ التِي هَزَمَتهَا مِنْ قَبلُ فَتَرَاجَعتْ بِهُدُوءِ المَذهولِ تَتَقبلَّهَا عَلَى مَضَضٍ في الجَمَاعَةِ مِنْ جَدِيدٍ.

عَلى الضِفَّةِ الأخرَى منَ النَّهرِ عَنَّ قَطيعٌ منَ البَقَرِ الوَحْشِيِّ اسْترْعَى انتِبَاهَ جَمَاعَةِ الأُسُودِ الجَائِعةِ لأَيَّامٍ، وَسَاقتهَا الغَريزَةُ حَتَّى حُدودِ النَّهْرِ ثُمَّ نَظَرتْ اللبُؤَاتُ إِلى فِضِّيةِ العَينِ القَائدَةِ يَنتَظِرْنَ مِنهَا المُبَادَرَةَ حتَّى إِذَا طَالَ أَمَدُ تَردُّدِهَا خَطَتْ جَانْدَا خُطُواتٍ نَحْوَ النَّهْرِ المُتَدَّفِقِ عبرَ السُّهولِ تَتَحسَّسُ المَاءَ تَخُوضُهُ بِحِرصٍ وَإِصرَارٍ. تَلَكَّأتِ اللبُؤَاتُ قَليلا فَلمَّا رَأيْنَ فِضِّيةَ العَينِ عَاجِزَةً لا تُبَادِرُ لِشَيءٍ تَرَكْنَها وَحِيدَةً وَتَبِعْنَ جَانْدَا الوَاحِدةُ تِلوَ الأُخرَى. شَعَرَتْ جَانْدَا بِأنَّ المَوقِفَ قَد نَصَّبَها قَائِدَةً لِلجَمَاعَةِ فَبَدَأتْ تَتَصرَّفُ بِمُستَوَى المَسؤُولِيَّةِ. أَجَالتْ بَصَرَها في قَطِيعِ البَّقَرِ حتَّى رَصَدَتْ صَيدًا مُنَاسبًا فَحَدَّدتْ لَحظَةَ الانْطِلاقِ وَتَبِعتْهَا اللبُؤَاتُ في هُجُومٍ قَوِيٍّ أَسْقَطَ ثَورًا سَمِينًا وَلكِنْ عَادَ قَائِدُ القَطِيعُ مَع مَجمُوعَةِ الثِّيرَان القَوِيَّةِ لِتخلِيصَهُ قَبلَ أنْ يَتَمكَّنَّ مِنْ قَتلِهِ.
وَبَينَا كَانَتْ اللبُؤَاتُ تُعِيدُ تَنظِيمَ أَنفُسِهَا لِهُجُومٍ جَدِيدٍ إذْ بفِضِّيةِ العَينِ تَقتَربُ مِنهنَّ بِهُدُوءِ مُتَربِّصٍ مُقَطَّبةَ الجَبِينِ فَأَقعَينَ فَزَعًا يَتَحَسَّبْنَ مِنْ سَطْوَةِ شَرَاستِهَا المَعهُودَةِ. لمْ تَلتفِتْ إِليهِنَّ وَوَاصَلتْ حتَّى إِذَا وَصَلتْ إِلى جَانْدَا – التِي وَقَفتْ فِي شَمَمٍ وَحَذَرٍ – انْحَنتْ أَمَامَهَا تُعْلِنُ الوَلاءَ لَهَا كَقَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ لِلجَمَاعَةِ فَتَعَانَقَتا بِحَكٍّ لَطِيفٍ لِلرِّقَابِ. عَادَت جَانْدَا فَقَادتْ هُجُومًا جَديدًا شَارَكتْ فِيهِ فِضِّيةُ العَينِ كَتَابِعَةٍ لأَوَّلِ مرَّةٍ مُنذُ عَهْدٍ بَعيدٍ وَتَمكَّنَّ جَميعًا مِن اقتِناصِ الثَّورِ الجَرِيحِ وَفَصْلِهِ عَنِ القَطِيعِ.

كَانَتْ اللبُؤَاتُ مُنشِغلاتٍ بِالافْتِراسِ حِينَ انْتَبهَتْ جَانْدَا فجْأَةً وَمِنْ خَلفِ بقَايَا غُبَارِ المَعرَكَةِ إِلَى شَيءٍ جَعَلَها تَقِفُ بِذُهُولٍ عَلَى أَطْرَافِ بَراثِنِهَا للِحَظَاتٍ قَبلَ أنْ تَنطَلِقَ نَحْوَهُ بِجُنُونٍ. تَشَمَّمَتهُ فَنَاجَاهَا بِنِدَاءٍ رَقِيقٍ تَعْرِفُهُ. جَثَتْ أَمَامَهُ يَتَمَرَّغُ في حِضنِهَا، وَشَعَرَتْ كَأَنَّ الكَونَ قَد تَوَقَّفَ دَهْرًا قَبلَ أنْ تَلعَقَ وَجْهَهُ وَتَطْبَعَ قُبلَةَ أُمٍّ حَنُونٍ عَلَى رَأْسِهِ الصَّغِيرِ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى