أدبنقد

قراءة جمالية في قصيدة (صلاة شوق) للشاعر د. سمير العمري

الجزء الأول

قصيدة صلاة شوق

ما أكثر ما يكتب الشعراء عن المرأة !
وعندما أقرأ (كامرأة ) شعرا لشاعر معاصر يخاطب امرأة ، سرعان ما تقودني قراءتي للتعمق في ما هو كامن وراء أسلوب الشاعر من تقييمه الإنساني لمخلوق استوطن ملكوت الشعر منذ أن دنا إليه خيال الشعراء ( المرأة ). فلا زلت أقرأ المرأة عيونا، ورموشا، وخدودا، وجيدا، وخصرا. ولا زلت أقرأ العلاقة معها: شوقا وعشقا وسهدا وأسرا. ولست أمانع إن فعل ذلك الشعراء وهو ديدنهم وجهدهم.

ولكنني يلفت انتباهي أن يرى شاعر امرأة رؤية شاعرية وجدانية غير ملتزمة بموروث الشعراء الرجال من كيفيات التقييم والتعبير. الشاعر الكبير الأستاذ د. سمير العمري يمتلك تلك الرؤية التي تستشف الداخل الأنثوي استشفافا لا يدعك تخرج عنه لتبحث عن الجسد بعد . وفي هذه القصيدة ( صلاة شوق ) يتلو علينا تعاليمه الوجدانية التي تفتح للشعراء مدرسة جديدة لفنية انبثاق الخطاب الشاعري الوجداني للكائن الأنثوي الداخلي (المرأة ) دون المرور بحواجز الجسد المهيمنة. هي إذن قصيدة ذات رؤية متفردة . تمثل اختراقا للعرف التعبيري عند الشعراء الرجال. وسنلاحظ كيف أبدع الشاعر باللمس العميق والتصوير النافذ الدقيق لمعانيه المبتكرة التي ما راودت خيال شاعر سواه من قبل .

بدءا من العنوان ( صلاة شوق ) نفسر تنكير الاسمين بوصفهما دلالة على عدم التعيين الذي يعني أن الشوق في حقيقته النفسية عند الشاعر هو الفطري غير المعين . وإن كانت المرأة المخاطبة معينة . فإذا كان الموصوف عموميا فهو نكرة ” شوق ” وتخصيصه ب”صلاة” اسم نكرة أيضا ،يطلق معنى الصلاة ليخرج اللفظة من حيز المدلول الديني إلى حيز المدلول المعنوي.
ونفهم بهذا أن التعميم غرض للشاعر يفيض عن تجربة إنسانية شاعرية، تمتهن الحكمة في توجيه رسالاتها.

نَجْوَى ابْتِسَامَةِ رُوحِكِ الحَزْنَى=دَلَجَتْ جَهَنَّمَ مُهْجَتِي عَدْنَا

يخاطب الشاعر امرأة .
نجوى ابتسامة الروح الحزنى؛ المطلع لوحة تشكيلية لوجه امرأة مبتسمة. ابتسامتها حقيقية، ﻷن الشاعر أضافها إلى الروح. وهي ابتسامة حزنى، وفي الجمع بين ابتسامة الروح والحزن طباق معنوي يمزج شعورين متضادين بريشة تسحب المعنى من عمق الروح لتفرشه ابتسامة حية على وجه امرأة. فهنا دواعي الحيرة التي تذكرنا باضطراب اجتماع مشاعر متعددة في ابتسامة الموناليزا.”

نجوى الابتسامة” تعبير بسيط عن صورة شعرية شفافة. فيها حركة الكلام الخفي الذي تبثه النجوى. وفي النجوى لا يقال إلا المهموس الخافت الذي لا يسمعه إلا القريب. يقول الشاعر : إن تلك النجوى من ابتسامة الروح الحزنى قد ” دلجت جهنم مهجتي عدنا “. وفي معنى ” دلج” لغويا: يحتمل بأنه ” ولج ” كما يتطلبه المعنى العام للفكرة، فمما جاء في معجم ( لسان العرب ): في مادة”دلج” (وولج فقلبت الواو تاء ثم قلبت دالا قال ابن سيده الدال فيها بدل من التاء عند سيبويه والتاء بدل من الواو عنده أيضا قال ابن سيده وإنما ذكرته في هذا المكان لغلبة الدال عليه وأنه غير مستعمل على الأصل قال جرير متخذا في ضعوات دولجا ويروى تولجا وقال العجاج واجتاب إدمان الفلاة الدولجا وفي حديث عمر أن رجلا أتاه فقال لقيتني امرأة أبايعها فأدخلتها الدولج الدولج المخدع وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير قال وأصل الدولج وولج لأنه فوعل من ولج يلج إذا دخل فأبدلوا من التاء دالا فقالوا دولج وكل ما ولجت من كهف أو سرب فهو تولج ودولج) فالمعنى: أن نجوى ابتسامة الروح الحزنى قد ولجت إلى جهنم مهجة الشاعر كأنها جنة عدن. فهنا الجنة تدخل إلى جهنم. وليس ذاك عقابا للجنة. إنما ثوابا لجهنم.
وكيف تدخل الجنة إلى جهنم القلب وما الذي يدخلها؟!
تدخلها نجوى تلك الابتسامة الحزينة التي استشفها الشاعر على وجه امرأة. وقد وقفت طويلا أتأمل في هذا المعنى المبتكر . وكيف تدخل الجنة إلى جهنم القلب عبر ابتسامة! فقرأت في معنى ” جهنم المهجة ” الحاجة النفسية للخلاص من عذاب روحي . وهو عذاب غير مرئي. وقرأت في المقابلة بين “إدلاج جنة عدن ” في داخل “جهنم القلب” نوعا من التجريد التعبيري الذي يبقي جوهر أثر الابتسامة فهو “جنة عدن”، وجوهر العذاب النفسي فهو “جهنم مهجة”. ومثل هذا الإطلاق للمعاني يمنح الشعر بوصفه فنا بعدا جماليا يجسد المطلق الإنساني في التجربة الفنية الإبداعية .

في كتابه (الأسس الجمالية في النقد العربي) يقول د. عز الدين اسماعيل: اللغة في الفن غاية في ذاتها، في حين أنها في غيره وسيلة “. ومعنى ذلك أن مهارة الفنان ( الشاعر ) وذكاءه في إنتاجه الفني يتوقفان على علاقته باللغة التي يستخدمها.
ونحن لن نعكف على إحصاء الخصائص اللغوية التي يتميز بها الأسلوب عند شاعرنا د. سمير العمري. ﻷن هذه قراءة جمالية اختيرت في الأصل لهدف محدد؛ وهو التركيز على استقراء اللغة التعبيرية التي يستخدمها الشاعر للتعبير عن الجمال المعنوي للمرأة منفردا عن غيره من الشعراء الحسيين .
غير أن القراءة الجمالية في شعر الأستاذ د. سمير العمري لا يمكن لها إلا أن تمر بأسلوبه اللغوي الذي بات معروفا به ومميزا له لشدة تعلقه بفنون البلاغة والبيان . بحيث أنه لا يقدم تركيبا لغويا إلا بتلغيمه باحتمالات متعددة للمعنى. واحتمالات متعددة لتفسير الصورة الفنية نفسها. لذا فإن المعجم الشعري الخاص بشاعرنا قد بلغ حدا من الدقة في اختبار الألفاظ فرض على المتلقي المتذوق حاجة ماسة للتأمل. بالعودة إلى البيت الأول مثلا:
نَجْوَى ابْتِسَامَةِ رُوحِكِ الحَزْنَى=دَلَجَتْ جَهَنَّمَ مُهْجَتِي عَدْنا
يمكننا البحث في تعدد احتمالات المعنى في الصدر ، من خلال تركيب الإضافة الذي أضاف فيه الشاعر النجوى للابتسامة ، ثم إضافة ثانية (الابتسامة للروح) ، فهكذا أصبح للفظة ” نجوى ” احتمالان : الأول أنها نجوى الابتسامة . والثاني أنها نجوى الروح. وهناك ثلاثة احتمالات جاءت بها الصفة ” الحزنى” فهل هي صفة النجوى؟ أم صفة الابتسامة؟ أم صفة الروح؟
كذلك في العجز، نقرأ تعدد الاحتمالات في لفظة الفعل ” دلج ” فهو فعل متعدد المعاني: ففضلا عما اخترناه من معناه باعتباره ” ولج “، يمكن لغيرنا أن يختار احتمال المعنى على أنه (ملء دلو الماء من البئر وإفراغه في الحوض) . ويكون احتمال المعنى في الصورة الفنية :
إن نجوى ابتسامة روحك الحزنى قد ملأت الدلو من جنة عدن وأفرغته في جهنم مهجتي . ..
عدا عن احتمال آخر للفعل ” دلج ” يأتي بمعنى السير ليلا. وقد يذهب خيال القارئ لهذا المعنى ثم يعود عنه بعد محاولة إسقاطه في مكانه من الصورة الفنية.
إذن ، نحن أمام مفردات لينة طرية تشبه عجينة الصلصال يضعها الشاعر في يد المتلقي لتتحول تحولا سحريا إلى الصورة التي يتوقعها والتي تلائم تطلعات ذائقته الشخصية .
وبهذا نعود إلى أهم مبادئ التشكيل الجمالي للصورة الفنية في الشعر وهو اختيار المفردات التي تسبب إدراكا حسيا مبهما أو غامضا بعض الشيء عند المتلقي. بسبب هذه التعددية في احتمالات معنى اللفظ الواحد.

أَرْنُـو وَجَفْـنُ الْعَـيْـنِ زَوْرَقُ وَامِــقٍ
يَخْشَـى النَّجَـاةَ مِـنَ الَّــذِي يَعْـنَـى

في البيت الثاني تظهر مقدرة الشاعر الفنان على التشكيل الجمالي ، بأبسط صياغة لغوية ممكنة لمفردات هي الأخرى بسيطة وسهلة ومتداولة . إلا أن الفعل الإبداعي أنتج منها مشهدا فنيا جماليا رائعا.
الفعل ” أرنو ” كلمة واحدة لكنها ذات أبعاد فراغية في مدلولها المعنوي .تظهر لنا صورة فنية عامة وبسيطة، نرى فيها شخصا( هو الشاعر ) وقد وقف يديم النظر إلى بعيد ما .
ثم تأتي الواو الحالية فتزيح هذه الصورة العامة سريعا ، وتستبدلها بلوحة تشكيلية ذات تفاصيل تمور بالجمال المعنوي حتى تكاد تنطق وتحيا. عبر عبارة شعرية طويلة ” وجفن العين زورق وامق يخشى النجاة من الذي يعنى “؛ تتمثل الخطوط الأساسية العريضة لهذه اللوحة التشكيلية بتشبيه بليغ هو ( جفن العين زورق ) ‘ فمن الواضح أن الشاعر قد اقتنص بملاحظته الدقيقة التشابه الشكلي بين الزورق و جفن العين من حيث التكوين المنحني ( الخط المقوس ) ليحوله إلى تشبيه بليغ. لكن الحدس الشاعري أدى إلى توسعة هذا التشبيه الأساسي في الصورة الفنية باستيراد متعلقاته.. فجفن العين يحمل العين ويحيط بها كما يحمل الزورق راكبه المبحر ويحيط به. وهكذا أصبح لدينا تشبيه ثان وهو (العين / راكب الزورق )
والزورق لا يركبه أي راكب بل هو راكب وامق محب (هو عين الشاعر التي ترنو نحو ذاك البعيد ). ويصف الشاعر ذلك الوامق المبحر في زورقه بأنه ” يخشى النجاة من الذي يعنى “، فخشية النجاة من زورق الوامق تعني أنه يسعى للغرق سعيا، وتوحي بنضال حركي للزورق ضد النجاة لا ضد الغرق. وخشية النجاة من الذي” يعنى “يطرح فيها الفعل ” يعنى ” احتمالات متعددة لمعانيه. فهو إما بمعنى ” يأسر ” وعند ذاك يصبح المعنى :
إن الوامق في زورقه يخشى النجاة ممن يأسره. فهو راض بكونه أسيرا. أو يكون بمعنى ” يهتم” وهذا المعنى لا أحبذ أخذه .ﻷن خشية النجاة توحي بشدة تعلق أكبر من مجرد الاهتمام.
ومهما يكن من أمر هذا التشكيل الجمالي الأخاذ في البيت كله. فإن متعة تذوقه الذي يحتاج إلى التأمل تدفعني للاعتراف باستحقاق الشاعر براءة اكتشاف وبراءة شاعرية على صورة شعرية احتضنت هذا الجمال بصياغة لغوية بسيطة لمفردات بسيطة بدورها.

وَعَلَى بِسَاطِ السُّهْدِ يَفْتَرِشُ الْمُنَى=لَيْلٌ لِبَهْجَةِ بَدْرِهِ حَنَّا

يتكون هيكل الصورة الشعرية في هذا البيت من ثلاث طبقات من اﻷعلى إلى الأسفل:
1- طبقة الليل الذي يحن لبهجة بدره. فالليل علوي وخال من تلك البهجة دون بدره. ودلالة ” حن ” تخبرنا عن الحنين الفطري. فالحنين يكون للعهد، أي لما كان أصلا معهودا. وليس للطارئ الجديد. وبما أن العلاقة بين الليل وبدره هي علاقة أصلية طبيعية فطرية وليست علاقة عابرة. فالحنين فيها للأصل الفطري.
2- طبقة المنى التي افترشها الليل ليتمدد عليها. وهي تنبئ بما هو غير متوفر في الواقع. ف”المنى ” خيال باتجاه الحلم وليس باتجاه المحفوظ في الذاكرة. ونوفق بين الحنين إلى المعهود والاتجاه إلى الحلم بأن المعهود هو المطلوب فطرة ليكون واقعا. وليس الواقع نفسه.
3- طبقة السهد وهي البساط الذي حمل المنى ثم الليل .وهي الأرق الذي يمنع النوم بالقلق .
نتأمل هذا التكوين البنيوي انتقالا من حالة السهد العام إلى ما يحمله السهد من التمني ثم الحنين كأنه محاولة الشاعر لإحاطة ما يريد قوله بأغلفة تجعل المراد جوهرا مكنونا وتزيد من حاجة القارئ للتأمل والسعي للوصول إلى ذلك المكنون. فالمعنى أعمق من الرصف العادي للكلمات البسيطة.

وفيما لو أجهرنا المعنى ببسط الكلمات، ﻷمكننا تلخيصه بأربع كلمات تصف حال الشاعر ( سهد ، تمني ، حنين للبهجة ) .
غير أن الشاعر آثر بناء تشكيل فني يتمكن فيه من صناعة استعارة مكنية ذات اتجاهين ؛
1- شبه الليل بالإنسان المسهد واستعار من الإنسان حاجته للافتراش وهو مستلق يكابد السهد كما استعار حنينه للبهجة .
2- استعار من الليل بدره فشبه المرأة التي حن إليها ببدر الليل فكان حنينه إليها كحنين الليل إلى بهجة بدره والبدر جزء من الليل.
ونخلص من هذا التشكيل الجمالي إلى مكانة المرأة التي كنى الشاعر عن حضورها ببهجة البدر. والشعور بالبهجة من قبل الليل الذي هو أصلا يحتوي البدر كجزء منه. ثم كل تلك الطبقات نوع من التأطير للفكرة الجوهرية التي هي الحنين للمرأة. أو للأصل الفطري في حضور المرأة عند الرجل / الشاعر. فالمرأة عند الشاعر ذات مكانة جوهرية عميقة لا ينبغي تقريبها للسطح. وإن الوصول إلى مثل هذه النتيجة في استقراء الجمال المعنوي للمرأة عند الشاعر كان هدفا لهذا التحليل.

فِي الْفَضْلِ صَوْمَعَةُ الْحَيَاءِ لِنَاسِكٍ=يَا مَنْ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ تُكْنَى

يصور الشاعر الشخصية الأنثوية الداخلية بكونها ” ناسكا ” فيصبح المضمون طاهرا متبتلا ومنقطعا إلى الزهد . وهي الصفات التي تستعار من الناسك. ثم إن الناسك يسكن في صومعته. وتكون الصومعة هكذا هي الجسد الأنثوي أو (الخارجي الشكلي). ومفتاح هذا التمثيل البلاغي “صومعة الحياء لناسك ” هو ” الحياء ” فبهذا المفتاح يلفت الشاعر الانتباه إلى ما يرغب في استقرائه والتركيز عليه في الجمال المعنوي الأنثوي. ومن المعروف أن الصفات التي يستخدمها الشعراء هي ما تقتنصه ملاحظتهم الانفعالية فيما يركزون عليه حواسهم.

فِي الْفَضْلِ صَوْمَعَةُ الْحَيَاءِ لِنَاسِكٍ=يَا مَنْ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ تُكْنَى

“يا من بكل فضيلة تكنى” خطاب مدحي مباشر. يخرج الجملة الإسمية (أنت في الفضل صومعة الحياء لناسك) إخراجا إخباريا يلقى كنوع من التلخيص لشأن الممدوحة في الفضل. فالشاعر يهمه الحديث عن مكانتها في الفضل أو الفضيلة .
وتلك معاييره في تقييم الجمال المعنوي لها. وهكذا نشهد خروجا عن المألوف في الشعر (الرجالي ) في اعتبار المديح لا الغزل بعضا من أغراض الشاعر إذ يخاطب المرأة وهو قليل نادر عند الشعراء وإن لم يكن غائبا كليا.
ولعل هذا المديح يوحي ببرودة مشاعر الشاعر تجاه المرأة الممدوحة، إذ ينبغي للقارئ أن يفكر بأن الشعور الأكثر توترا هو ما يطفو على ظاهر التعبير وأولويته عند الشعراء. فاللجوء للمديح لا للغزل قد يعني اتزان العاطفة وقدرة المشاعر على الوقوف حيادا. غير أن الرد على هذا الاحتمال يأتي بقول الشاعر

نَفَشَتْ نِعَاجُ رَصِينِ فِكْرِكِ فِي النُّهَى=فَفَتَنْتِنِي دَاوُودَكِ الْمُضْنَى

فهنا نرى افتتان (الشاعر /داوود ) بشيء مختلف وغير متوقع من أسباب الافتتان بالمرأة ، وهو رصين فكر المرأة .
لذا فإن مدح الفكر يتحول إلى غزل عند الشاعر . ومن مدلولاته استخدامه الفعل ” ففتنتني ” والصفة ” المضنى ” وهي صفات تحمل من شحنة الانفعال ما ينتمي لروح العشق والغزل ما يرد تهمة المديح بسبب الحياد العاطفي.
وكي نقف على تحليل جميل لجماليات الصورة الشعرية في هذا البيت نعود ونذكر بحاجة القارئ لاستخدام ملكة التأمل الفني

نَفَشَتْ نِعَاجُ رَصِينِ فِكْرِكِ فِي النُّهَى=فَفَتَنْتِنِي دَاوُودَكِ الْمُضْنَى

التضمين من الآية الكريمة :
“وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ”. { 78/ الأنبياء } .

يقول المفسرون في معنى مفردة (نفشت): ” هي من مادّة (نفش) أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي المزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً لذا قال البعض: إنّها الرّعي في الليل. و(نفش) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل “.
فداوود – عليه السلام -كان قد فتن بحكمه في قضية النعاج التي دخلت الكرم فنفشت فيه. إذ حكم بإعطاء الأغنام إلى صاحب الزرع عوضا عما أتلف من زرعه. دون أن يحكم بتعويض صاحب الأغنام خسارته ﻷغنامه وفقا لهذا الحكم.
فكانت هذه فتنة ﻷنها حيرت داوود – عليه السلام – واختبرته في قضائه وحكمه.
وشاعرنا يستعير من هذه القصة القرآنية حدث ” الفتنة ” في تقمصه لدور النبي داوود – عليه السلام – فيقول : إنه بسبب ما أحدثته نعاج الفكر الرصين من النفش في النهى قد أصبح مفتتنا في حكمه . فهو “داوودك المضنى” ﻷنك سبب افتتانه.
وتشبيه فعل الفكر الرصين بالنهى بفعل الأغنام إذ ترعى في الكرم تشبيه ضمني يقابل بين حركة الأفكار في تفاعلها وإتيانها على ما وجد في النهى من قبل. بحركة الأغنام التي ترعى دون مسؤولية فتأتي على ما في الكرم من نبات. وهذا كناية عن التأثر بفاعلية الفكر الرصين عند المرأة. فيصبح الآن للمرأة قوة تأثير فكرية ينتج عنها ” داوودك المضنى “.

وقد أحسن الشاعر بقوة بيانه في إضافة الاسم ” داوود ” إلى كاف الخطاب ، فدلل على أنه يتحدث عن تشبيه مخصص غير مطلق. فهو داوودها هي من حيث تعرضه للتأثر بالفكر وخضوعه للافتتان فقط .وليس من حيث التطابق بين شخص وصفات داوود – عليه السلام – مع شخصه وصفاته هو ذلك التطابق المطلق.
أما بناء البيت لغويا فقد جاء في غاية التكثيف والاختزال مستبعدا أي حشو في تضمين قصة قرآنية عميقة المضمون متفرعة الهيئة على سبيل التناص الجزئي والمعنوي .ولم يحتج الشاعر أكثر من سبع كلمات(نفشت نعاج رصين فكرك في النهى ففتنتني ) ،فكان أسلوب الإضافة المتكررة ثلاث مرات سر هذا الاختزال الإبداعي الذي قال كل شيء بإسنادين اثنين فقط (نفشت ) و(فتنتني ). وأما البدل ” داوودك” فهو تقديم الشاعر لنفسه بعد أن تعرض للفتنة ليكون تأكيدا على ما تعرض إليه من سبب الفتنة .

جماليا: أدى التناص وظيفته الجمالية الإسقاطية من جهة واحدة فقط في رأيي. فافتتان داوود /الشاعر. جميل ﻷنه رفع قدر الشاعر بتشبيهه بما هو أعلى منه مقاما.
أما تشبيه رصين الفكر بالنعاج التي نفشت فقد أخل بمبدأ تشبيه الأدنى بالأعلى ، إذ الفكر الرصين أعلى من النعاج . فلا يجمل تشبيهه بها. إلا إن قرأنا التشبيه على أنه الاستسلام من النهى عند الشاعر لتأثير الفكر الرصين فيه. فهنا التشبيه بين أثر الفكر وأثر النعاج. ووجه الشبه هو” النفش”. ويزيد هذا من جمالية الانفعال وجمالية معنى الإسقاط.

⇐ الجزء الثاني

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

  1. ما ابدع تلك القصيدة لشاعرنا الفذ سمير العمري وهي تأخذنا الى رحبوت الجمال الذي جاء بنمير الحرف ومن ثم جعلنا نسعى للغرق في بحر حرفه الماتع ونسعى للغرق فيه عطشا حيث كان من هلام المشاعر الذي صقلها جمال الدرر..وحقول العطر وما تحت سدرة المنتهى ، اكوناً اسطورية ادخلتنا إلى ملحمة الياذة ..إنه الإشراق بصوفيته وفلسفة وجوده وتجواله في خفايا الروح
    احييك على هذا الحرف والفكر مع تحياتي يا سليل النور .. أما انت يا استاذتي فلك حكاية أخرى في غوصك إلى أغوار الحرف الذي ناهز الشمس بضياؤها فبددت ديجور ما في رؤانا ليفوح بخور الدهشة في مصافحتنا لزهر الأنامل .. تحايا ود وتقدير لكما ..

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى